تهنئة شخص ما بعيد ميلاده الخمسين تمهيداً لوداعه الى مثواه الأخير حين يبلغ الواحدة والخمسين، أمرٌ صعب، متناقض ومُحيّر. هذه حال الألمان الذين احتفلوا قبل أيام باليوبيل الذهبي لعملتهم، وهم يعرفون أنها ستكف عن الوجود، نظرياً، بعد أشهر، وعملياً مع اعتماد اليورو في التداول عام 2002. و"المارك"، تسميةً، وزنٌ للفضة أو الذهب يقارب الثماني أونصات، كما أنه وحدة مالية أو عملة نقدية فضية. لكن العلاقة التي ربطت الألمان بهذه العملة ربما كانت أمتن من علاقة أي شعب آخر بعملته. فالوحدة الألمانية التي جمعت الدول والامارات الكثيرة بدأت فعلياً باتحاد زولفرين الجمركي الذي وحّد العملات في 1834، قبل قيام الوحدة السياسية في 1871. وبعد الوحدة مباشرة أنشىء المارك الحديث بقيمة تزيد قليلاً عن ربع دولار أميركي، ليعاد تأسيس تلك العملة ثانيةً في ظل جمهورية فايمار بعد الحرب الأولى، وتحديداً في 1924. وقد عُرف المارك هذا والذي حافظ عليه العهد الهتلري، ب"رايخ مارك"، أي عملة الرايخ أو الجمهورية. أما بعد الحرب الثانية، وفي 1948، فأعيد تأسيسه باسم "دويتش مارك"، أو المارك الألماني، بقيمة تساوي قيمة الرايخ مارك الأصلية. صحيحٌ أن العملة المذكورة لم تملك العراقة التاريخية التي للجنيه الاسترليني أو الفرنك الفرنسي، الا أنها مع هذا أنجزت مهمات عظمى ورمزت الى مكاسب يصعب أن لا يفتخر بها الألمان، ومنها البرهنة على أن بلادهم أصبحت ديموقراطية مستقرة. فهي أداة ما غدا يُعرف ب"المعجزة الاقتصادية الألمانية" لجهة البناء الذي أعقب الحرب، وارتبط باسم وزير المال لودفيك ايرهارد ارتباطه ب"مشروع مارشال" الأميركي، ولكنْ خصوصاً لجهة القفزات الاقتصادية الهائلة التي كانت لتستحيل لولا تعزيز المارك وترسيخه. وفي غضون ذلك، حافظت العملة، ومن غير انقطاع تقريباً، على قيمتها الثابتة، فبات أكثر من سُبع التجارة العالمية يُحرر بها. وأهم مما عداه أن الدويتش مارك جسّد الانتقال الى جنة السلع الاستهلاكية الفائضة بعد أيام الحرب وبؤس الرايخ مارك النازي: يومها باتت أطنان من هذا الأخير لا تشتري ربطة خبز، وثماني ساعات من العمل لا تكفي لشراء بيضة