"أنا شرطة. هذه جملة أو عبارة قد تبدو غير مألوفة. لكننا هكذا نقول. بين بعضنا بعضاً لا نقول أبداً أنا شرطيّ أو أنا شرطية أو أنا ضابط شرطي مثلاً. نقول فقط أنا شرطة. أنا شرطة. أنا شرطة وإسمي التحرّي مايك هوليهان. وأنا، فوق ذلك، امرأة". هكذا يبدأ مارتن أميس كتابه معرِّفاً منذ السطور الأولى تلك ببطله، أو ببطلته. لا يقتصر لُبْسها على كونها شرطية، إذ سرعان ما يميل واحدنا الى تصوّر رجل، لا امرأة، حين يتعلّق الأمر بمهنة الشرطة أو التحرّي. اسمها ايضاً اسمُ رجل، ولهذا اقتضى التوضيح في الكلمة الأخيرة من المقطع الأول. ومايك، شرطيتنا هذه، لم يُكتفى لها بهذا القدر من اللبس والخلط في جنسها فهي، إضافة الى مهنتها واسمها تكاد تُرى، حين تُرى، رجلاً. لقد ورثت عن أحد والديها ملامح الريف الخشنة التي لم تلطّفها المدينة. وجسمها يميل في ضخامته الى أن يُصنّف بين أجسام الرجال. ومثله صوتها، ذلك الذي يجعلها تصحّح لمحادثها على الهاتف، إن شاءت ذلك طبعاً، استعماله للضمائر فتقول له: "هاي، أنا امرأة". في ما يتلو مقطع الرواية الأوّل ذاك، قدمت الرواية نبذة عن تاريخ بطلتها المهني، فقط. نوع من بطاقة التعريف التي يسميها الأميركيون "سي.في"، والتي على طالب المهنة أن يبرزها لمكاتب التوظيف. مايك هوليهان تنقّلت بين فروع شرطة كثيرة قبل أن تنتقل، في نهاية السنوات الخمس عشرة، الى فرع جرائم القتل. وهي، في السنوات الأولى من عملها، التحقت بدورات تدريب أهّلتها لمركز في الشرطة لا يُسمّى أبدا إذ لا تقدّمها الرواية الا "شرطة" فقط. لقد شهدت جرائم كثيرة بالطبع وتوّلتها حتى نهاياتها. الآن، بعد هذه السنوات الخمس عشرة، تستطيع أن تعرف من هيئة المحتجز ساعات في غرفة الاستجواب، من نظرة عينيه ومن طريقة جلوسه ومن حركات يديه، إن كان بريئاً أو جانياً. وهي، أيضاً، وضعت سلّم أسباب ترى أن احدها، أو بعضها، قد يؤدي بالشخص الى الانتحار. لقد عملت على جرائم كثيرة وحقّقت مع أعتى المتهمين ووقفت في غرف التشريح لتشاهد بعينها كل ما يتصل بالجرائم... "لكن من بين كل الأجسام الجثث التي سبق لي أن رأيتها لم يلازمني جسم ويمكث فيّ، تحت جلدي، مثل جسم "جنيفر روكويل"، التي قضت انتحاراً بثلاث رصاصات فجّرت بها رأسها. لم يكن قد انقضى وقت طويل على انتحار جنيفر حين رأتها مايك جالسة على الكرسي بجسمها العاري كله والمسدس الذي تحرص الشرطية على تسمية نوعه - 022 - ملقى على الأرض تحت يدها اليمنى. انها صديقة مايك والانتحار هذا لم يفعل، حتى حينه، فعله النهائي إذ كانت العينان المفتوحتان ما زالتا نديتين ومثلهما الشفتان "لم يتغير شيء يذكر في هيئة جنيفر، كل شيء ما زال على حاله: العينان، الشفتان. لون الوجه والجسم. إنه جسم جنيفر لم يتغيّر فيه الا شيء واحد: هو انه ميت". الرصاصات الثلاث تترك أثرها هناك في الداخل إذ يحدث لها، لحظة دخولها سريعة حارقة، أن "تهستر" هناك حيث تصل "إذ تدرك الرصاصة بأنها دخلت في مكان ينبغي لها ألا تكون فيه". يلزم انقضاء بعض الوقت حتى يبدأ الموت عمل كيميائه لتحويل الجسد عن هيئته. لكن الشرطية مايك لن تترك لجسم صديقتها جنيفر أن يصير هكذا متحلّلاً في ذاكرتها. جسم جنيفر الذي، لجماله، استعادت مايك واحداً من مشاهد ظهوره على المسبح في يوم الاحتفال ذاك، حيث أدار الجميع رؤوسهم اليها. ذلك المشهد الذي ارتدت فيه جنيفر، المنتحرة بعد ذلك، لباس بحر أبيض من قطعة واحدة، يبدو وحده، بين مشاهد الرواية جميعها، مرتدّاً الى صور من الماضي، وإن كان ماضياً قريباً في المتناول. ليس المقصود هنا ماضي حياة مايك وجنيفر، بل الماضي بما هو فسحة حنين أو تعبير أو مجال للتخيّل وبناء الصور واستعارة موديلاته. هذه التي منها ثوب السباحة الأبيض، الذي من قطعة واحدة، والتي منها أيضاً ظهور جنيفر به ظهوراً داهشاً، كما في ما توحيه الحكايات القديمة النبض، بينما الرؤوس تُدار الى ناحيتها. في رواية "قطار الليل" هذه يبدو الزمن كأنه سطح واحد لا شيء تحته. صفحة واحدة هي صفحة الحاضرة أتت اليها الشخصيات لتتحرّك فوقها. لا شيء بين ما يحدث أو يُرى سبق له أن كان موجوداً من قبل. التواريخ التي تذكرها الشرطية مايك لجرائم حدثت في مدينتها وهي لا تبتعد كثيراً على أي حال إذ لا يتجاوز اقصاها 1971 مثلاً موجودة في ملف لا يفعل الزمن فيه فعله، كأن يعتقه أو يهمله. كل شيء موجود في صفحة الحاضر أو على سطحه. ولا يتعلّق ذلك بالشخصيات وحدها، تلك التي تضمّ ماضي أيامها الى حاضرها نازعة عنها نكهتها القديمة، بل أيضاً الأمكنة أيضاً لا تتبدّل مع تبدّل الزمان ولا يصير لها، إذ تُشاهد، وجهان: وجه لماضيها ووجه لما هي عليه الآن. اللغة أيضاً، لغة الأميركيين في الرواية، تبدو كما لو أنها تُصنع من جديد كل يوم في عملية قوامها التخلّص من كل تعبير قد يردّ سامعه الى حنين ما أو الى شعور فات عليه الوقت وانقضى. ليس في رواية ماتن أميس مشهد مؤلف على نسق التوهّم العائد للماضي الا مشهد جنيفر سائرة بلباس البحر الأبيض والرؤوس مدارة اليها. بشر الرواية هذه لا يستحقون أن يحظى واحدهم باحتفاء على نحو ما يحظى ظهور الجميلات في روايات القرن الماضي التي ما زالت بعض مشاهدها فاعلة الى الآن، عند غير مارتن أميس. ربما جسم جنيفر يستحق ذلك، الجميل جمالاً مدهشاً وإن استعمل لوصفه تشبيهه بالأجسام التي تظهرها دعايات شرائح الذرة مع تعليق: استمتع بأكلك الذي يغذيك ويتولى بنفسه خروجه فضلات". جسم جنيفر وحده جميل. لكن الجسم هو داخله أيضاً، كما تقول مايك حين تعاودها نوبة ألم الكبد. لقد انتحرت جنيفر من داخل جسمها لا من خارجه. جسمها الذي أرهقه الإدمان على الليثيوم الخطير، وهذا ما بينته التحاليل. جسمها الذي يكاد، لاضطرابه، أن يقود صاحبته الى حياة لا تريدها. جسمها الذي، إذ يستعيد الماضي هذه المرة، لا يراه الا معرضاً لطعنات الاعتداء ثانية من الغرفة القريبة. الأجسام هي داخلها وليست خارجها تقول الشرطية مايك. ذلك يذكّر بأن ما يُرى ليس إلا كسوة أو قشرة يتفاعل تحتها المنظر الحقيقي. Martin Amis - Night train - Harmony Books - First American Edition 1998 - 175 P.