على الطريق، في النزلة التي يسميها سائقو السيارات العمومية نزلة السارولا ببيروت، كان الرجل بائع العلكة واقفاً كعادته. بل كان متحركاً كعادته فيما هو يقدّم العلبة الصغيرة للسائقين من خارج نوافذهم المفتوحة، باذلاً جهداً أحسبه هائلاً لإبقاء جسمه المنتفض المهتز واقفاً متماسكاً. ذلك نوع من الإعاقة شائع، كما إنه شائع التشوه الذي يصاحبه جاعلاً اليدين مُساقتين كأنما بأسلاك داخلية معطّلة. في آخرهما، أو في آخر حركتهما، كانت الأصابع ممدودة متصلّبة. هكذا كأنها تصوّب أو تشير الى كل شيء تأخذها الحركة اللاإرادية الى ناحيته. أما وجهه، الذي كان عليه ان يبذل له القسم الأعظم من الجهد ليبقيه ثابتاً في مكانه، فكان مبتسماً برغم ذلك، مظهراً عن هناءة نعرف أنها، نحن المزدحمة سياراتنا في النزلة، أنها من أخطاء الشكل ومن تشوّهاته. في يوم واحد من الأيام لا أعرف ماذا فعل وماذا تغيّر فيه فأصبح قابلاً لأنه يوصف في مشهد روائي أو قصصي. ربما كانت تلك النظرة المتأملة التي انصرف بها عن زبائنه الى نفسه، ليرتاح، وإن واقفاً وسط ضجيجه الداخلي المتولد عن حركته الموصوفة أعلاه. قبل ذلك، قبل تلك النظرة، لم يكن يخطر لي أنه من شخوص الكتابة ومن أبطالها. كان، برغم كل ما فيه، واحداً من مشاهد الطريق المعتادة. كان أفقر تعبيرية وأقل قوّة مشهدية من أن ينتقل من حيز الحياة الى حيز الأدب. ذاك الإنتقال الصعب الجوهري الذي لا يتحقق بمجرد أن يأخذ كاتب قلمه ليكتب عن شيء رآه. ذاك أن الشخص، أو الشيء، يجب أن يكون موجوداً وجوداً كتابياً قبل ان تصل الكتابة إليه. رجلنا هذا، في نزلة السارولا، كان قليل الحظ إذ كان يفقره وجوده العادي، لولا تلك النظرة المتأملة التي انطوى بها على داخل نفسه، مرتاحاً من زبائنه. تلك النظرة الواحدة وضعته في مشهد، أو جعلت منه مشهداً. إنه، بها تلك النظرة، كان قد بدا كأنما في صورة فوتوغرافية، أو كأنما في تمثال، مشهداً قابلاً لأن يكون خالداً، الخلود الذي نعتقده للأدب. ليست الكتابة مهنةً أو صنعةً لتحويل الحياة اليومية الى أدب، هكذا على نحو ما شاع من تحويل المعادن الى ذهب. ذاك أن الأدب، أو الرواية، ينبغي لهما أن يكونا موجودين وجوداً سابقاً في الحياة. الرجل بائع العلكة، في نزلة السارولا، كان، قبل اكتشافه، أقل حظاً من الرجل الذي يشبهه في فيلم "إبنة ريان" لدافيد لين إذ تميز هذا الأخير بوجوده في السينما التي ألّفت له مشاهد، هو المعتوه الأشوه، بدا فيها، كأنه واحد من أربع شخصيات نموذجية أو خمس تختصر بشر إيرلندا السابقة جميعهم. جعلته السينما، فيما هو يمشي مقلداً مشية العسكريين، معلّقاً على صدره الوسام الذي وجده مرمياً على رمل الشاطئ ورافعاً يده، فيما هو يمشي، بالتحية العسكرية، جعلته السينما واحداً من الشخصيات التي نستعين بها لنرفع الى الضوء أشخاصاً يشبهونه لكن مغمورين في عادية الحياة وفي ظلّيتها. صاحبنا بائع العلكة كان أقل حظاً من مثيله الذي في فيلم دافيد لين إذ لم يستطع، بوقوفه هناك في نزلة السارولا، ان يوسع مشهده ويجعله في قوة المشهد السينمائي أو الروائي. لم يستطع ان يرفع نفسه الى ذلك المصاف. ما يمكن ان يؤهّل شخصاً للرواية أو للسينما هو، في ما أحسب، جمعه، في صورته الواحدة، لصورتين أو أكثر يضمهما معاً فيه. ذلك يشبه تلك اللوحة البلاستيكية الصغيرة التي كنا نلهو بها أطفالاً فتظهر لنا، إذ نحركها، صورة ثانية كانت مختبئة فيها. في أثناء ما ننظر الى ما يشبه ذلك الآن من بشر حقيقيين نكون، في ما أظن، لا نعدّد الوجه أو نكثّره بل نكون نتخذ ذلك وسيلة لنسبر غوره. كما لنسبر حقائق أو موضوعات للتفكر يثيرها فينا إزدواج الوجوه واختلاطها. الرجل بائع العلكة أدخل وجهه في هيئة أخرى إذ انصرف عنا، في تلك اللحظة، الى نفسه. ماذا هناك، في نفسه؟ صرنا نتساءل نحن الذين في السيارات التي أوقفتها الزحمة. كيف هي نفسه؟ هل هي واسعة مثل أرض منبسطة لا عوائق فيها ولا نتؤات؟ هل هي بيضاء أو هادئة اللون على الأقل مثلما نعتقد أنها أرض الجنة؟ لقد حملنا الرجل، بنظرته تلك، الى أن نفكر فيه مستخدمين، لإيضاح ذلك لأنفسنا، صوراً لا أفكاراً. أو صوراً مختلطة بأفكار. أو أننا، بنحو أدق، استسلمنا في تفكيرنا الى ما نعتقده اتجاهنا التلقائي، الخاص بنا. أي أننا سرنا مع موجتنا الحرة، أو مع تيارنا المتسمة حركته بالإندفاق والتوسع، لا بالتسلسل. جعلنا الرجل، إذ أدخل وجهه في هيئة أخرى، جعلَنا نتساءل "ماذا هناك في نفسه؟" أو "كيف هي نفسه؟" منذ الصفحات الأولى من روايته "الصخب والعنف" وضعنا وليم فوكنر في هذا الموقف ذاته إزاء بطله المتخلف عقلياً: بنجي أو بنجامين. منذ بداية ظهوره في الرواية ممسكاً بيد أخته التي ترعاه في نزهته مانعة إياه، في الوقت نفسه، من التقاط كرات الغولف التي تتقدم متدحرجة إليه بعد ان تضرب هناك بعصيّها. منذ ظهوره الأول ذاك بدأ بنجي يتكون كشخصية كأنما من باطنه لا من ظاهره. لم يصفه وليم فوكنر جسماً وشكلاً بل بدأ به من هناك، من أعماقه التي رحنا نتساءل ماذا فيها أو كيف هي؟ هذا وقد كان فوكنر ملحّاً في السؤال الى درجة أنه أدخل نفسه في باطن بنجي، المتخلف عقلياً، وأخذ يتكلم أو يروي من هناك، من ذلك الداخل الغامض. في التعبير الشائع يقال، مثلاً أن الروائي حلَّ في شخصية بطله أو يقال أنه تقمّصها. قد يكون هذا التعبير الشائع دقيقاً لكنه، في أي حال، لم يعد جميلاً ولا موفياً بالغرض. ذاك أن طول الإستعمال قد أنقصه أو أضعف المعنى الذي يحاول، من دون تمكن، ان يوصله قوياً. ينبغي، حين يتعلق الأمر بالرواية، أن لا نأخذ الكلام إلا حيّاً، لم يمت منه شيء. لقد بدأ وليم فوكنر من باطن بنجي لا من ظاهره. وهو، إضافة الى ذلك، بدأ يروي من الوسط لا من البداية. من الوسط أي مما هو قلب الرجل المتخلف عقلياً أو صلبه أو صلب نفسه. أي أنه بدأ من الموضع ذاته الذي سينتهي إليه، هكذا، كأنه ظل في الوسط، أو في البؤرة المكونة للجسم المصنوع كله من طاقتها. تلك بداية أملتها موجة التفكير الحرة. في الرواية، في كتابة الرواية، أحسب أنه ينبغي لنا أن نكون هناك، في بواطن البشر أو في دواخلهم. وليم فوكنر لم يكتف بأن أحل نفسه محلّ بنجي بل إنه، في كتاب آخر له "بينما أرقد محتضرة" أحل نفسه محل كل من شخصيات الرواية جميعها. أرنست همنغواي وصف الألم الذي شعر الثور، بصيغة الثور المتكلم، حين اخترقت الرصاصة رأسه في قصة فرنسيس موكامبير. الروائي اللبناني فؤاد كنعان أحل نفسه محل بيته وكنيسة قريته وجعل ينطقها او ينطق بلسانها. لطالما سعى الروائيون الى الحلول محل شخصيات أخرى، أو أقوام أخرى، أو حتى مخلوقات أخرى. ذلك، على الدوام، كان فتنتهم وامتحانهم في الوقت نفسه يمتحنون أنفسهم به. أما مصدر هذه الفتنة فهو، في ما أحسب، كامن في مطابقة الذاتين ذات الروائي وذات موضوعه في ذات واحدة. ذاك يعيدنا بالطبع الى الهيئتين في الوجه الواحد، المذكور عنهما أعلاه، كما يعيدنا أيضاً الى تلك اللعبة البلاستيكية ذات الصورتين المختبئة إحداهما في الأخرى والمحاولة، في الوقت ذاته، أن تطغى عليها وتزيحها. ليست الكتابة الروائية مهنة أو صنعة لتحويل الحياة اليومية الى أدب، وليس بالحبر وحده يمكن للبشر المهملين أن يخرجوا من ظل الحياة الى ضوء الكتابة. الروائي ليس حاملاً الحياة الى الكتب بالنقل والتدوين. إنه، أولاً وقبل كل شيء، راء لما هو موجود لكن الموجود هذا، للنظرة العابرة المتسرعة، "ليس بالمستبان" بحسب أبي نواس. إنه راء وكاشف أيضاً مستخدماً في سبيل ذلك وعيه واستبطانه الروائيين، كما لغته الروائية أيضاً تلك التي لن تصل الى تمامها أو كمالها ما دام أنها تخترع نفسها دائماً. وعلى نحو ما هو خطأ القول أن هناك طريقة لتأليف الرواية على الروائي أن يطبقها أو يحتذيها كما يحتذي معدّ أطروحة الدكتوره سبيل من سبقوه، على نحو ما هو خطأ هذا القول، كذلك من الخطأ الفادح اعتبار أن هناك لغة على الروائي أن ينضم إليها ليدخل في سلكها. أراني هنا معوِّلاً تعويلاً كثيراً على رجلي بائع العلكة الموصوفة حركته أعلاه كما الموصوفة نظرته التي أهّلته فجأة لأن يكون في مشهد روائي. أحسب أن حالي، ببطلي هذا، قد يشبه حال جرير الذي أشار الى الرجل شارب اللبن من ضرع المعزى وقال: أنظروا، هذا هو أبي الذي قلت شعراً كثيراً فيه. هل يستحق بائع العلكة، أو سواه من أضرابه وأشباهه، أن يُحمل إليه الأدب ويوقف عنده؟ أقصد هل يقدر رجلي ذاك، أو بطلي، أن يستحق البطولة تقوم عليه وحده، هكذا من دون أن يكون دالاً إلا على نفسه. أقصد أيضاً هل يمكن أن يُكتفى به منعزلاً عن الموضوعات الكبرى التي تساق عادة شخصيات الروايات تحتها كالقطعان. هل يستطيع ان يقوم بنفسه من دون موضوع الفقر مثلاً أو من دون موضوع العدالة الإجتماعية أو حتى عدالة الأقدار المفقودة بتفريقها بين الناس؟ عن كتابٌ لي هو "تحت شرفة آنجي" قال لي قارئٌ ناقدٌ أنه كان عليّ أن أستفيض في وصف المأساة الإجتماعية التي تعانيها العانسات. لم يجد اكتمالاً للمعنى أو تحققاً له فيما هو يقرأ صفحات عمن أسميتهن النساء الصغيرات يتسامرن أو يتغاوين، على طريقتهن طبعاً، في المقهى الذي ذهبن ليجلسن فيه. يجب عليهن، بحسب القارئ الناقد ذاك، ان يعبّرن عن شيء حتى يمكن لهن أن ينوجدن. أي أن عليهن أن ينتمين الى واحد من الموضوعات الكبيرة تلك ليكون لوجودهنّ سبب ومعنى. ذاك أن الرواية عندنا، في تيارها الغالب، ما زالت ساعية الى نوع الإنتماء ذاك. لها فيه حاجة على نحو ما للفرد حاجة، ليكون ذا معنى، الى حزب أو الى جماعة أو قوم. أقصد هنا ما يوحدّ الحزب أو الجماعة أو القوم وهو العقيدة أو العصبية أو الدم. لا يفيد في شيء أن تتناول الرواية العانسات الثلاث من دون أن يكون موضوعها العنوسة نفسها. كما لا يفيد في شيء أن نكتب عن أشخاص جانبيين أو هامشيين عايشناهم في سنوات الحرب الكثيرة، هكذا من دون أن يكون موضوعنا هو الحرب. أي، بعبارة أخرى، من دون أن يكونوا ضحاياها. أين الحرب في هذه الروايات، صار يسأل النقاد كتّابَ الرواية. أو "إنها رواية الحرب" قالوا، وما زالوا يقولون، عن حقبة روائية ما زالت مستمرة منذ عشرين سنة. الحرب التي ينبغي أن تكون قضية الكتابة وأن تتلقفها الكتابة مثل فرصة سنحت. يبدو أمرنا كما لو أننا لا نقدر أن نؤدّي معنى إلا إن انضوينا في قضية واتخذنا لأنفسنا إسمها. يجب أن يكون للشيء معناه الذي لن يستقيم وجوده إلا به. هذه ليست رواية عن الشيخوخة صرت أقول لمن قرأوا روايتي "أيام زائدة". ليست عن الشيخوخة بل عن هذا الشيخ الفرد الذي لا يشبه الشيوخ في شيء. إنها رواية عن الشيخوخة يقولون، وأنا أقول لا ليست كذلك، لكنهم بعد ذلك يعاودون قول ما قالوه حتى بتّ أسكت إذ يقولون ذلك، شأن رجلي الشيخ الذي أتعبه إصرار من حوله أنه في السابعة والتسعين وليس في الواحدة والتسعين، فقَبِل هكذا بالعمر الذي شاؤوه له. روايات ينبغي لها أن تنتمي الى قضايا أو تتبع قضايا. أُعطي إسم رواية الحرب للرواية اللبنانية المعاصرة وذلك على أمل أن تشمل التسمية كل ما كتب وما لم يكتب بعد. ذاك أنه ينبغى أن يعطى إسم للحقبة لكي تُسمّى به. إنها رواية الحرب، وقبلها بحقبتين أو ثلاث كانت رواية الهزيمة. أما الشعر الذي ظهر بعد "رواية الهزيمة" فهو شعر المقاومة أو "شعر الجنوب" في لبنان بعد أن صار للجنوب حربه وقضيته. روايات حقب ذات أسماء، وإن لم يتوفر ذلك سعت الرواية الى تسمية قضيتها، غير الروائية طبعاً، بنفسها. في السنوات الأخيرة ازدادت قضايا الروايات عظماً فهنا رواية عن تاريخ بلد كامل وهناك رواية عن التغيرات الإجتماعية التي ألمت بمدينة كاملة. إنه الهوى الملحمي يستعاد ثانية. ذلك في ما أحسب يشبه أن تنظر الرواية في مرآة مجتمعها ذي القضايا الكبيرة الموحِّدة ليكون لها، مثله، قضاياها وأسماؤها التي لا تقلّ أهمية وعظماً. إنها تنظر في مرآته لتعرف نفسها أو لتعرّفها. هكذا ستكون رواية التواريخ الكاملة لمدن أو لبلدان أو لحروب مُرحَّباً بها على الدوام. من أجلها نرضى بأن يكون الزمن مستقيماً ممتداً مثل فلاة متطاولة المسافات. روايات تستعير من الحقب الجسام أو الأحداث الجسام معنى لوجودها. وربما يحدث أن تزول الروايات بزوال الحقب والأحداث هذه. نبدو دائماً كأننا نجمع كل زمن لنا في صفة واحدة. صفة واحدة تكفي لحربه ولوطنيته ولعشقه ولمشكلاته الإجتماعية والتربوية ولأحوال أهله جميعها. إنها أزمنة تتعاقب مثل موجات رياح عالية تهبّ واحدة إثر واحدة، أو واحدة تزيح واحدة على الأرض، الواحدة هي أيضاً، التي لا تتغيّر. ريح تزيح ريحاً وقلّما يصمد شيء على الأرض الواحدة، أو على الأصح لا يستقل شيء بوجود خاص به ليعصى على الإقتلاع. في الرواية كما في الشعر لا نبدو، في حقبنا الراهنة هذه، كأننا نتسلسل ممن سبق وجوده وجودنا. في الرواية، كما في الشعر، لا يقدر روائي او شاعر ان يقول إنه امتداد لتاريخ كتابي تواصلت مراحله. لا يخفى على أحد ان الروائيين، إذ يُسألون عن أنسابهم، لا يسمّون مراجع محلية ينتسبون إليها. أنا أقول إنني واجد شغفي في الرواية الأميركية، كاتب آخر يجده في الرواية الجديدة الفرنسية أو في كاتب بعينه بمعزل عن لغته ووطنيته. لم يُصنع تاريخ راسخ ليورّث الآتين بعده. هل هذا بسبب أننا كنا نأخذ الزمن كلا مجتمعاً لا يبتعد شيء فيه عن شيء؟ هل لأننا، في الرواية مثلاً، لم نلق بالاً كثيراً الى ما يجعلها موجودة بتاريخ هو لها وحدها؟ - ألقيت هذه الكلمة في مؤتمر الرواية بالقاهرة