يسترعي انتباهنا في صورة خاصة في كتاب الوشاء "الظرف والظرفاء"، الموضوع في القرن الهجري الرابع، الحديث عن مواد تشير إلى علاقة نتبين أطرافها بين "الظرافة" والفن الكتابي. فقد اعتاد اكثر من ناقد ومؤرخ للفن الإسلامي على القول ب"دينية" الفن الإسلامي، بل ب"صوفيته" أو ب"روحانيته"، من دون اهتمام أو ملاحظة وجود بما نسميه ب"الفن الإسلامي الدنيوي"، وهو ما نتبين قسماً منه في هذا الكتاب. يستعيد هذا الفن الطرق والأساليب والأدوات التي عُرفَ بها الفن الإسلامي "الديني". فالصانع يستعيد في هذا الفن ما سبق أن جربه فوق حوامل مادية أخرى الورق، الآجر ...، ووفق عتبارات مغايرة دينية، تعليمية، توضيحية...: هذا ما يمكننا قوله بعد الوقوف على هذا العدد الكبير من المنتجات الفنية الدنيوية، وفي هذه الصيغ "الظريفة". فالأمثلة عديدة لكي نتأكد من كون الفن الكتابي يؤدي أدواراً في التراسل الإجتماعي، ولا سيما الغرامي منه، خاصة بين الجواري، كما في هذه الحكاية: "كان محمد بن عبد الملك الزيات يحب بعض جواري القيان، ثم تنكر لها فكتب على خاتم لفظاً تعرض له فيه بالعتاب، فبلغه ذلك فكَتبَ على خاتمه ضد ما كتبتْ، فبلغها، فمحتْ ما كان على خاتمها وكتبتْ ضد ما كتبَ، فبلغه ذلك فمحا ما كان على خاتمه، وكتب ضد ذلك في أبيات يقول فيها: كتبتْ على فصٍ لخاتمها: من ملَّ من أحبابِه رقدا فكَتبتُ في فصي ليبلغها: من نامَ لم يشعر بمن سهدا فمحته واكتتبتْ ليبلغني: ما نام من يهوى ولا سهدا فمحوتُه ثم اكتتبتُ: انا والله أول ميت كمدا قالتْ يعارضني بخاتمه والله لا كلمته أبدا". تحول الفص، على ما نرى، إلى لوح كتابة، تُكتبُ وُتمحى عليه الرسائل المتبادلة بين حبيبين سابقين: كما لو أننا أمام الرسائل المعطرة أو ذات الألوان الوردية وخلافها وذات الأشكال المنمقة أزهار ، قبلات ... في أيامنا هذه! الكتابة الفنية "رسول غرام" على ما تقوله هذه الأبيات: "قرأت على تفاحة مكتوباً بماء الذهب: انا للأحباب بالسر وبالوصل رسول أتهادى فأرق القلب والقلب ملول". إلا ان هذا التراسل الاجتماعي يطاول، على ما نتبين، فئات اجتماعية عديدة: نتبين هذا في شكل خاص عند الجواري اللواتي سعين، على ما يبدو، الى "تجميل" ثيابهن أو مقتنياتهن أو إمارات وجوههن بعدد من المحسنات الفنية: فجارية عند محمد بن عمرو بن مسعدة "كانت فوق وصف الواصف من الحسن والجمال، وعليها قميص موشح، ورداء معين"" والرداء المعين، على ما نعلم، ثوب في وشيه ترابيع صغار كعيون الوحش. كما اننا نجد العديد من الأوصاف المماثلة الخاصة بالجواري وبثيابهن، فيجري الحديث عن جارية ذات "قميص ملحم، موشح بالذهب"، أو عن "دراعة ملحم بترانين من زخارف الأثواب إبريسم ولبنة سوسنجرد ضرب من القماش". ونتبين في إحدى الحكايات أن الجارية كانت تعمد لهذا الفن لتحسين شروط بيعها: "وكتبت راهي جارية الأحدب قبل أن يشتريها إسحاق بن إبراهيم المصلي على وشاح قميصها: إذا وجدت لهيب الشوق في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبتردُ هبني طفئت ببرد الماء ظاهره فمن لحر على الأحشاء يتقدُ". حلفاء "ظرفاء" إلا اننا لا نجد الحاجة بينة لهذا الفن عند الجواري وحسب، بل عند عدد واسع من الفئات والأوساط الإجتماعية. فنتحقق من وجود ذلك عند الخلفاء، أو أبنائهم من أمثال: "وكتبت شادن جارية خنث قيمة جواري المأمون على وقاية شيء كالمنديل يلف على الذوائب ليبقيها تجمع بها ذوائبها: بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو جثل الكثير الملتف أسحم أسود فكأنها فيه نهار مشرق وكأنه ليل عليها مظلم". - "وقال الماوردي: رأيت جارية لبعض ولد المأمون، وعليها قلنسوة عليها مكتوب: يا تارك الجسم بلا قلب أن كان يهواك فما ذنبي؟ يا مفرداً بالحسن أفردتني منك بطول الشوق والكرب". - "قال علي بن الجهم: قرأت على ستر لبعض ولد المأمون: جرتني كي أجاريكم بفعلكم لا تهجريني فإني لا أجاريك قلبي محب لكم راض بفعلكم استرزق الله، قلب لا يجانيك أصبحت عبدا لأدنى أهل داركم وكنت فيما مضى مولى مواليك". وكتب بعض ولد المتوكل على ستره، كما كتبت بنت المهدي على قدح بالذهب، وجرت كتابة الأشعار على الدراهم والدنانير في عهد المتوكل: "أصفرَ صاغتهُ الملوكُ تطرباً بأسمائها فيه المروةُ والفخرُ إسم أمينِ اللهِ زِينَت سُطورُهُ كما زِينَ بالتفصيل في نظمه الدُّرُّ هو المَلِكُ المأمونُ من آل هاشمٍبهم إن أَغَبَّ القطرُ يُسْتَنْزَلُ القطرُ له غُرَّةٌ فَينانَةٌ جَعْفَرِيَّةٌ بها تضحكُ الشمسُ المضيئةُ والبدرُ". وهذه الكتابات تتصل بحياة أعلام ذلك الزمان ممن عرفوا واشتهروا في الأدب أو في السياسة، من أمثال: علي بن الجهم، سعيد الفارسي، سعيد بن حميد، آل طاهر، وبني هاشم. كما يأتي ذكر عدد كبير من الأدباء أو الظرفاء والماجنين والنخاسين، حتى أن أحد هؤلاء لم يتأخر عن "عرض" جاريته بعد أن ترك الكتابة على جبينها ... وإذا كانت بعض الأشعار تكتفي بما هو مسموح به اجتماعياً، مثل الأقوال على بوابات الكتب أو من الشعر الغزلي المعروف في ذاك الزمان، فإن بعضها الآخر لا يتأخر عن قول "غير المباح"، كما في هذه الحكاية: وأخبرني آخر أنه قرأ على تكة لبعض المواجن القليلات الحياء: إقطع التكة حتىتذهب التكة أصلا ثم قل للردف أهلابك يا ردف وسهلا". أو هذه: "وأخبرني أحد الظرفاء أنه قرأ على منصة لبعض المجان: تقول، وقد جردتها من ثيابها : ألست تخاف اليوم أهلك أو أهلي؟ فقلت: كلانا خائف بمكانه فهل هو إلا قتلك اليوم أو قتلي؟". ويتضح في هذا الكتاب أن التفنن الغرامي هذا كان متبعاً، لا بين أوساط الماجنين أو الظرفاء وحسب، بل في مجالس الخليفة نفسه، على ما نتبين في هذه الحكاية عن المأمون: "وأخبرني أبو جعفر القارىء قال: أخبرني بعض شيوخنا أنه قرأ في صدر مجلس لأمير المؤمنين المأمون: صل من هويت ودع مقالة حاسدليس الحسود على الهوى بمساعد لم يخلق الرحمن أحسن منظرا من عاشقين على فراش واحد متعانقين عليهما أزر الهوىمتوسدين بمعصم وبساعد يا من يلوم على الهوى أهل الهوى هل تستطيع صلاح قلب فاسد". ولكن ألا يمكننا تبين "فنية" هذه المنتجات في ما يورده الوشاء عنها من أشعار وحكايات؟ الإشارات قليلة إلا أنها ليست معدومة تماماً. فغرض هذه الأقوال لا يقوم على وصف ما هي عليه هذه المنتجات، بل على التعبير عن غرض التراسل. فما هذه الأشارات؟ يورد الوشاء هذين البيتين عما وجد على التفاح من الألفاظ الملاح: "حياك إنسان له رونق نوارة دانية تزهر تفاحة حمراء منقوشة يخجل من حمرتها الجوهر". يصعب علينا ونحن نقرأ هذين البيتين ان نتخيل وجود تفاحة قابلة لأن ينقش عليها، فهل يعني هذا وجود أشكال صلبة، أي معدنية، بهيئة التفاح؟ هذا ما نميل إليه، ويعزز اعتقادنا هذا ورود أقوال غير قليلة في هذا الكتاب تتحدث عن "تفاح مكتب"، أي معلَّم بالكتابة، أو ما يفيده بيت آخر نتبين فيه وجود تفاحة كُتبَ عليها بماء الذهب. إلى ذلك فإن النقش يتصل على ما نعرف بالمواد الصلبة، مثل نقش التماثيل والصور على الجدران، على ما يفيده هذا القول الشعري: "وإني لأخلو مذ فقدتك دائبا فانقش تمثالا لوجهك في الترب فأسقيه من دمعي وأبكي تضرعا إليه كما يبكي العبيد إلى الرب". كما نتبين من ناحية أخرى أموراً متصلة بالمواد الفنية، مثل استعمال الخزف الملون في القباب "رأيت في صدر قبة مكتوباً بألوان فصوص منضدة"، أو الكتابة على الجص في باب دار "قرأت على باب دار خدشا في الجص بعود"، أو استعمال الخزف الصيني "وأخبرني بعض الكتاب أنه قرأ على صينية بين يدي الحسن بن وهب مفصلة بالفصوص بألوان شتى"، أو عمل الصاغة: "درهم أبيض مليح المعاني بسطور مبينات حسان صاغه الصائغ المنمق بالحسن ليهدي صبيحة المهرجان".