ما حصل في الهند وباكستان لم يكن مجرد تفجيرات، بل ليس مجرد تفجيرات نووية. انه رعد ينذر ببدء مرحلة جديدة نوعياً وبالغة الصعوبة في تطور الوضع الدولي ويتطلب جهوداً خاصة من المجتمع الدولي، وادراكاً لجوهر العمليات الجارية في السياسة العالمية. وقد اتناول هذا الموضوع في مقال منفصل. واقتصر هنا على الاشارة الى انه في ظل جميع العواقب المرئية وغير المرئية لتطور الاحداث في جنوب آسيا، فاننا نواجه حالة تؤكد بطلان نظرية العالم ذي القطب الواحد. والتفجيرات هي، للأسف، برهان مرير لكنه مقنع على ان اي دولة، مهما بلغت امكاناتها، غير قادرة بمفردها على معالجة المشاكل الحقيقية لعصرنا الراهن. وهذه الحال جلية لا تخفى. ومما له دلالته ان التفجيرات دفعت الى عقد اجتماع "خماسي" للدول الدائمة العضوية في مجلس الامن، ثم "ثماني" للدول الصناعية الكبرى، كما ابدت بلدان اخرى عديدة نشاطاً في السياق ذاته. وعلى رغم ان الدافع لذلك لا يبعث على الابتهاج، فان هذه حال بدأت تعمل فيها بشكل فعلي آلية التعددية القطبية للعالم. التفجيرات وضعت مجدداً في جدول الاعمال موضوع نادي الدول العظمى ومعايير الانتماء اليه. وبمقدار ما يتعلق الامر بي شخصياً فان هذا الموضوع كان يبدو دائماً لغزاً محيراً. فهل ثمة معايير لپ"العظمة" اياها؟ وان وجدت فهل تنحصر في حيازة السلاح النووي والقدرة على اصابة الخصم المحتمل، وابادة نصف البشرية معه؟ أم انها تتمثل في كمية ما ينتجه البلد من السيارات والجبن الهولندي او حتى ورق التواليت مثلاً؟ وأنا شخصياً ارى من البديهي ان مثل هذا التعاطي الحسابي لا يصلح، على الاقل من زاوية ان البلد الذي ينتج اكثر يستهلك اكثر؟ ولذا فانه يستخدم ما يفوق عشرات المرات ما تستخدمه الدول الاخرى من الموارد الطبيعية والاراضي الزراعية، في حين قد يبدو ان هذه وتلك كان ينبغي ان توزع بالتساوي على الشعوب القاطنة في كوكبنا المتواضع، هذا الى جانب ان الثروات المذكورة هي ملك للاجيال المقبلة ايضاً، ونحن لا يمكن ان نترك اولادنا واحفادنا من دون غابات ومياه نقية ومصادر طاقة كافية. ولكن هل ان تعداد السكان هو معيار "العظمة"؟ انا، مثلاً، ارى ان الشعب الاسباني عظيم بما يحمله من ثقافة رفيعة. انه شعب رفض هيمنة العرب لكنه تمثّل ثقافتهم وحافظ على الصداقة معهم. شعب ادى عند دفن ضحايا الحرب لاهلية، واجب الاحترام للطرفين المتقاتلين اي للجمهوريين ولانصار فرانكو. شعب حقق قفزة نحو المعاصرة ولحق باوروبا. فهل ثمة معيار يبرر ان لا يعتبر هذا الشعب عظيماً؟ ان مؤشرات الانتاجية العالية وبالتالي المستوى العالي للاستهلاك والرخاء والثروة، هي قضايا مهمة ولكنها بالتأكيد ليست نموذجاً للعظمة. لقد كان ابو العلاء المعري العظيم كفيفاً وفقيراً، وتوفي بيتهوفن وهو يعاني من الفاقة والصمم والنسيان. وليف تولستوي كان دوقاً ثرياً الا انه في طموحه الى الكمال حاول ان يفرض قيوداً على نفسه، وكأن اليسر والشبع كانا يعوقان ابداعه. وهذه مادة للتأمل للمتخمين والمتغطرسين. وما هو التناسب بين الاخلاق والعظمة؟ كيف يمكن التعاطي مع وقائع استخدام سلاح الابادة الشاملة للمرة الاولى ضد بلد آخر؟ هل ان وجود معسكرات الاعتقال وافران الغاز في الماضي القريب يلغي الطموح الى العظمة؟ كيف نتعامل مع حقيقة مؤداها ان شعوباً متروكة وتعاني الخمول في المرحلة الحالية من تاريخها لكنها كانت قد صنعت حضارات عظيمة، ومن يعرف ما اذا كانت ستنهض وتهب العالم منجزات جديدة؟ وسفر العالم لا ينتهي بالقرن العشرين، وسباق المسافات التي تسمى تاريخ البشرية ما برح مستمراً. وتحضرني كلمات الكاتب الصيني الكبير هو مو جو الذي حاول ان يخفف من غلواء المؤرخين الاوروبيين في صدد المنجزات الراهنة لقارتهم، فقال بتواضع: "لا تنسوا ان اجدادكم حينما كانوا يتسلقون الاشجار فان اسلافنا كانوا يرفلون بالحرير ويكتبون قصائد مستقبلية". اعود الى الجبن الهولندي. ذات مرة كنت اتحدث الى ممثل دولة اوروبية مزدهرة ودأب على عقد مقارنة بين بلاده وروسيا، مؤكداً ان بلادنا تخلفت عن اوروبا. واجبت بمرارة ان عليه ان يقارن مساحات الدول الاوروبية، ثم انني ابديت استعدادي لمواصلة السجال اذا قدم لي عشر صفحات من نص احد ادباء بلاده يمكن ان تقارن بما دونه فيودور دوستويفسكي او نوتات بمستوى ما ابدع بيوتر تشايكوفسكي. قد يبدو ذلك نوعاً من التعصب القومي الثقافي ولكن المرء اذا اراد ان يتعصب لوطنه فليكن ذلك في مجال الارث الروحي وابداع الكتّاب والموسيقيين العظام. اما انتاج الجبن فهو قضية وقت. وانا لست متعصباً اعمى، واسجل هنا انني لست معجباً بظاهرة "الروس الجدد" وخصوصاً بسلوكهم في الخارج الذي لا يشرف روسيا. حينما يستخدم مصطلح "الدولة العظمى" فانه يثير في مخيلة الكثيرين اعداد البوارج وحاملات الطائرات والدبابات. ويقال انه ذُكر مرة اسم بابا روما امام ستالين فسأل ساخراً "وكم كتيبة تحت امرته؟"، ان "والد البلدان والشعوب"، كما كان انصار ستالين يسمونه، قد ووري التراب واستنكرت ممارساته التعسفية وافكاره. اما البابا اليوم فان الملايين يتطلعون اليه على رغم انه لا يملك كتائب. وفي حينه كان هتلر - وهو المهووس بجنون العظمة - شيد عمارة من الحجر والخرسانة وكان يريد لعظمة الرايخ الثالث ان تدوم الف عام من دون ان يخطر على باله ان مجايليه سوف يدوسون الرايات الفاشية ويلعنون اسمه. ولظاهرة العظمة، تاريخياً، جانب آخر. اذ لا يجوز ان تطلق هذه الصفة قبل ان يصدر التاريخ حكمه، وفي خلاف ذلك فانها ستكون مجرد واجهة رخيصة. واستحضر كلمات حكيم صيني آخر هو رئيس الوزراء السابق شو ان لاي الذي سئل عن تقويمه للثورة الفرنسية العظمى عام 1789، فقال ان الوقت لم يحن بعد لاصدار الاحكام. هذا القول لرجل كان يدرك معنى العظمة. او لنأخذ مثال شخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وانا اذكر زمناً كان ابانه ذا شعبية واسعة جداً في مصر. وفي اواسط الستينات زار القاهرة رئيس الوزراء السوفياتي اليكسي كوسيغين ثم توجه في سيارة واحدة مع عبدالناصر جالت شوارع الاسكندرية، وكان مئات الآلاف في استقباله. همس كوسيغين في اذني، وكنت مترجماً واجلس في المقعد الامامي من السيارة: "انا افهم فانهم لم يخرجوا لاستقبالي أنا". واضاف بلهجة صارمة "كم شخص ألهوا عن العمل!". هذه اللمحة تذكرتها استطراداً، وما اريد قوله هو ان عبدالناصر كان "معشوقاً" ولا يزال لديه مؤيدون وانصار ومحبون في العالم العربي وخارجه، وانا بينهم. ولكن اذا سألتم المصريين فلا استبعد انكم ستستغربون لاكتشافكم ان هناك تقويمات متناقضة لهذه الشخصية الفذة ويزداد التناقض مع اتضاح الصورة الحقيقية لأعوام حكمه وتوفر الفرصة للتأمل فيها برويّة. وهناك من يعقد مقارنة بينه وبين انور السادات ويتساءل: اي منهما عاد على مصر بمنفعة اكبر؟ وهذا الرأي ايضاً ينبغي احترامه. ولكنني لو سمعته في اواخر الستينات لما كنت اصدق ما اسمع. ان عظمة الشعب الجزائري تكمن في انه دفع ثمناً باهظاً للغاية لقاء استقلاله وقدم مليون شهيد قرباناً لذلك. والآن يحاول متعصبون ارهابيون ان يلطخوا هذه العظمة بالدماء، ويقتلون اشقاءهم. كلما امعنا التفكير في موضوع عظمة الشعوب، طرأت على الباب فكرة قد تبدو مكرورة ومفادها ان لكل الشعوب الحق في العظمة. والافكار تسمى مكرورة لأنها اقرب من غيرها الى الحقيقة ولذا تتكرر اكثر من سواها. واختم بما كنت قد بدأت به، بالتفجيرات في جنوب آسيا. فقد نقلت وكالات الانباء من افغانستان الجريحة نبأ لا ادري ما اذا كان مضحكاً او مبكياً. والاحتمال الثاني هو الارجح. فحال سماع حركة "طالبان" بالتفجيرات اعلنت عن رغبتها في صنع قنبلتها النووية. وقد يسخر احد من ذلك، ولكن احد الخبراء قال لي ان "طالبان" قد تحتاج الى امور كثيرة ولكن لديها من المال ما يكفي، اذ ان تجارة المخدرات لها عوائد كبيرة. هل يعجبك ذلك ايها القارئ العزيز؟ * نائب وزير الخارجية الروسي