حرارة الصيف السياسي في لبنان سبقت حرارة الصيف المناخي هذا العام مبشرة بارتفاع درجات الحرارة تدريجياً مع اقتراب مواعيد الاستحقاقات الكبرى المنتظرة. الصيف الساخن هو العنوان الكبير في لبنان اليوم بعد ربيع صاخب لم يزهر الا قليلاً بسبب غيوم القلق والمخاوف والعواصف المفاجئة وضجيج الجدل والخلاف حول مختلف القضايا المطروحة اضافة الى "برودة" الاجواء بين اهل الحكم التي كادت تصل في بعض الاحيان الى ما تحت درجة التجمد لولا الرياح الدافئة التي هبت من الشام لانقاذ ما يمكن انقاذه من المواسم! "قطوع" الاستحقاق الاول مر بسلام بعد اشهر من الاخذ والرد والتسريبات، او التمنيات، بتأجيل الانتخابات البلدية الى اجل غير مسمى مما كاد يحدث ثغرة ينفذ عبرها البعض ليغمز من قناة الحكم ويتهمه بالتفرد واللاديموقراطية. ولكن الانتخابات البلدية جرت في مواعيدها المحددة وفي ظل معركة اتسمت بالنزاهة والشفافية والحرارة والاقبال الشعبي الكثيف الذي لم يشهد له لبنان مثيلاً من قبل مما دفع جميع الفرقاء للاشادة بها رغم بعض الشوائب وتبادل اتهامات من هنا وهناك، وهذا امر منطقي وطبيعي بالنسبة لبلد خرج لتوه من حرب اهلية طاحنة استمرت اكثر من 17 عاماً ولم يشهد انتخابات بلدية منذ اكثر من 35 عاماً اي ان اجيالاً بكاملها تصوت للشأن البلدي لأول مرة في حياتها. اما الاستحقاق المهم الذي يشغل بال كل لبناني، في الشتاء والصيف وكل الفصول فهو المتعلق بالشأن الاقتصادي والمخاوف من الجمود والكساد وعجز الموازنة والضرائب والرسوم والغلاء والهدر ومضاعفات اقرار مرسوم الرتب والرواتب والديون التي وصلت الى اكثر من 15 بليون دولار وكل ما له علاقة بتبعات مسيرة الانماء والاعمار. ولكن هذا القلق بدأ يخف قليلاً نتيجة لنجاح خطة الاصرار على الحد من تنامي العجز في الموازنة وحصره عند حدود الپ37 في المئة، حتى ان ارقام النصف الاول من العام الحالي تحدثت عن نسبة اقل من السقف المحدد للعجز اضافة لعوامل اخرى من بينها الدعم السعودي للبنان والاموال التي ضخت للبنك المركزي من المملكة وعدة دول خليجية وشكلت جدار ثقة في الداخل والخارج، وافتتاح عدد من المشاريع المبهرة مثل المطار الجديد وعدة اوتوسترادات خففت من حدة الازدحام الذي تعاني منه بيروت، وزيارة الرئيس الفرنسي شيراك وافتتاحه قصر الصنوبر المتجدد، وعودة عدد من المستثمرين الكبار وبينهم الامير الوليد بن طلال بن عبدالعزيز. واذا كان الاستحقاق الاقتصادي مستمراً وغير مرتبط بتاريخ او بموعد يجعل من المستحيل الحكم على ادائه سلباً او ايجاباً بشكل قاطع فان الاستحقاق الكبير الآخر، وهو انتخابات الرئاسة اللبنانية، له سقف وحدود وتاريخ وموعد لا يمكن لأحد تجاوزه. فقد كاد هذا الاستحقاق ان يولد قبل موعده بعد احتدام خلافات "الترويكا" واستعجال بعض الاطراف فتح المعركة مبكراً، ولكل طرف حساباته وظروفه وربما انفعالاته. كما كاد طرح مشروع الزواج المدني ان يفجر الوضع برمته ويقلب التوازنات لولا الاحتكام لدمشق فتم تغليب العقل وطي صفحة القضايا الخلافية، وقبول الجميع التعايش في "هدنة علنية" تستمر حتى منتصف تشرين الاول اكتوبر الموعد الشرعي لفتح معركة الرئاسة بعد ان تهدأ النفوس وتنتهي الانتخابات البلدية ويلتفت المسؤولون لمواجهة الاستحقاق الاخطر والاكبر المتعلق بالطرح الاسرائيلي الخاص بالقرار 425 والشروط والمحاذير والتبعات المرتقبة. ولكن هذا لا يعني ان "بورصة الانتخابات الرئاسية" قد اقفل عليها بالضبة والمفتاح، لأن الاتصالات والتحركات لم تتوقف كما ان اسهم المرشحين ترتفع وتهبط حسب الاجواء السائدة واولها اسم قائد الجيش العماد اميل لحود. معظم المصادر التي سئلت عن الاستحقاق اكدت ان الانتخابات الرئاسية ستجرى في موعدها المحدد وأن المعركة مطلوبة لعدة اسباب بينها اكمال مسيرة البناء الديموقراطي وتحسين صورته في الداخل والخارج وضخ دم جديد في نظام الحكم ضمن اطار الحديث المتزايد عن الرغبة في احداث تغييرات في القيادة والوجوه والاساليب بحيث تكون قادرة على مواجهة متطلبات المرحلة المقبلة والانتقال بلبنان من المرحلة الانتقالية الى مرحلة الاستقرار والتحصين ضد الهزات بعد ازالة اسباب الاحتقان والاحباط والجفاء والمقاطعة والانفتاح على مختلف التيارات والاتجاهات، وهذا ما لمسه الجميع في الانتخابات البلدية، لأن الاستحقاقات والتطورات المرتقبة تتطلب وحدة وطنية صلبة وقرارات تحتاج الى دعم واسناد بالوفاق او بالتوافق ان لم يكن بالاجماع. الا ان شبه الاجماع على ان معركة الرئاسة حاصلة لا محال لا يمنع الاطراف الفاعلة واصحاب القرار من التلميح تارة والتصريح تارة اخرى بان التمديد او التجديد للرئيس الهراوي لا يمكن استبعادهما في حال حدوث تطورات دراماتيكية او احداث خطيرة في الجنوب او على صعيد المنطقة ككل رغم ان الرئيس اللبناني اكد مراراً وتكراراً انه لن يمدد ولن يجدد وانه راغب في تسليم الامانة لرئيس جديد وعهد جديد ليرتاح… وربما يريح بعض المختلفين معه او المعارضين لاسلوبه. من بين التطورات التي يتحدثون عنها اقدام اسرائيل على تحريك الاستحقاق الاكبر المتعلق بالقرار 425 والانسحاب من جنوبلبنان او افتعالها لأزمات تدفعها للتصعيد العسكري في الصيف لتفرض نفسها ناخباً رئيسياً في معركة الرئاسة ولاعباً في الشؤون الداخلية اللبنانية. ويخطئ من يظن ان اسرائيل قد تخلت عن مشاريعها المشبوهة في جنوبلبنان، وفي كل مكان على الارض العربية تحتله، او لها مطامع فيه، ولهذا لا يستبعد ابداً ان تصعد ضغوطها لتعزيز طرحها الخاص بكيفية تنفيذ القرار الدولي رقم 425 وفرض شروطها التعجيزية خاصة بعد تأزم العلاقات مع الولاياتالمتحدة وتعثر المفاوضات على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي، فبنيامين نتانياهو يبحث عن مخرج يضرب فيه عدة عصافير بحجر واحد ولا يجد مبتغاه الا باللف والدوران في جنوبلبنان بدلاً من ان يعود الى الطريق الصحيح المؤدي الى السلام والامن والاستقرار وهو طريق الالتزام بمسيرة السلام ومرجعية مدريد التي انطلقت على اساسها. كما يخطئ من يظن ان اعلان حكومة نتانياهو الليكودية الموافقة على قرار مجلس الامن رقم 425 بعد عشرين سنة من رفضه وعدم الاعتراف به وابداء الرغبة بالانسحاب من جنوبلبنان جاء عن كرم اخلاق او من اجل عيون السلام والامن او محبة بلبنان. ولهذا اختلف مع من يصف الاعلان الاسرائيلي بأنه "فخ" او "مناورة" او "لعبة"… فهذه الاوصاف قد تنطبق على الشكل لا على الجوهر. والجوهر ينطلق من استراتيجية تسعى الى تحقيق عدة اهداف في آن واحد ومنها: جر لبنان الى صلح منفرد بتسمية جديدة تحمل عنوان المفاوضات من اجل الترتيبات الامنية اسوة بما جرى مع الاردن والفلسطينيين حيث تفردت اسرائيل بكل طرف لتفتيت الصف العربي. فصل المسارين السوري واللبناني عن بعضهما بوصفهما آخر مظهر من مظاهر التضامن العربي ووحدة الموقف والصمود في وجه المطامع الصهيونية وبالتالي تجميد المسار السوري نهائياً وتهويد الجولان وفرض هيمنتها على الجنوباللبناني حسب الشروط التي تفرضها على لبنان الذي سيكون في وضع ضعيف لو انجر الى مفاوضات قد نعرف متى تبدأ ولكن لا احد يعرف متى تنتهي. اشعال الفتنة في لبنان عبر معالجة الطرح الاسرائيلي واحياء حلم التقسيم والفتن الطائفية تمهيداً لتعميمها على المنطقة بأسرها. الهاء الرأي العام العالمي، والولاياتالمتحدة بالذات في مسألة جانبية ومتفرعة عن قضية السلام ككل، وذر الرماد في العيون بادعاء اسرائيل انها تعمل من اجل السلام وانها بانسحابها من لبنان تكون قد نفذت القرارات الدولية واعادت الاراضي العربية لاصحابها ولا يجوز بعد اليوم مطالبتها بمزيد من.. "التضحيات"!! على حد زعمها. تحييد المسار الفلسطيني - الاسرائيلي واكمال مخططات التهويد والاستعمار الاستيطاني وتحويل الانظار عن الفشل وعدم الالتزام بالاتفاقات التي سبق ان وقعتها اسرائيل. كسب الرأي العام الداخلي ولا سيما في صفوف الجيش واهالي الجنود الاسرائيليين الذين يطالبون بالانسحاب من جنوبلبنان بعد الخسائر الفادحة التي لحقت بهم نتيجة لعمليات المقاومة اللبنانية، اضافة الى شطب فاتورة تكلفة الاحتلال الباهظة. وقد نجح لبنان في نزع فتيل المخطط الاسرائيلي المتفجر بعد حالة ارتباك وبلبلة ظهر فيها وكأنه يرفض الانسحاب الاسرائيلي بسبب التصريحات المتناقضة وعدم التنسيق لدرجة ان قطاعات واسعة من الرأي العام اللبناني والعربي والدولي ابدت استغرابها من وضع شاذ تبدو فيه اسرائيل وكأنها الحمل الوديع الذي يقبل الانسحاب من الاراضي اللبنانية وينفذ القرارات الدولية ولكن لبنان صاحب الارض والحق يرفض ذلك ولا يسترد ارضه المحتلة. وبعد تصحيح الموقف استطاع لبنان ان يربح جولة بالتنسيق مع سورية ويفضح المخطط المشبوه والشروط الصعبة التي ما ان يقبل لبنان الدخول في مفاوضات مع اسرائيل بشأنها حتى يفقد حقوقه ويفرغ القرار الدولي من معانيه ويخضع لعملية ابتزاز معقدة شرحها لي السيد نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني في لقاء مطول الخص ابعادها بالنقاط التالية: ان الشروط الجديدة اسوأ من اتفاق 17 ايار مايو وتفرض على لبنان التزامات تنتهك سيادته وحريته وتعزله عن محيطه كما انها تؤدي الى تخليه عن مياهه في الحاصباني والوزاني وربما الليطاني اضافة الى القرى السبع المحتلة من قبل ومزارع شبعا وغيرها. ان مجرد قبول لبنان بالشروط الاسرائيلية يعني انه وضع القرار 425، الذي ينص على انسحاب فوري وشامل وبدون قيد او شرط، على الرف ووافق على ترتيبات صهيونية تحوله الى شرطي تابع لاسرائيل التي قد تعود في اية لحظة بزعم ان امنها قد خرق من لبنان، وهذا ليس غريباً عليها طالما انها تطالب بمكافأة العملاء ومعاقبة المقاومين والوطنيين الشرفاء. ان مصلحة لبنان ان يرفض الطرح الاسرائيلي لأسباب تتعلق به ولا علاقة لسورية من قريب او بعيد بهذا الرفض. لأن لبنان هو الذي سيدفع الثمن لو قبل الانجرار الى هذا النفق المظلم. وحتى لو طلبت سورية من لبنان الموافقة فانه يجب ان يرفض لاسباب عديدة تضاف الى ما اشرت اليه من بينها قبوله توطين اللاجئين الفلسطينيين وتبعات السلام الصهيوني المفروض فرضاً. ولهذا فان من مصلحة لبنان ان لا يوقع اي سلام الا بعد توقيع جميع الدول العربية. ان لبنان متمسك بتنفيذ القرار 425 بحذافيره من دون قيد او شرط ودون اية مفاوضات مع دعوة القوات الدولية للقيام بدورها في حفظ السلام على ان يكون امر السلام الشامل مرتبطاً بتسوية اقليمية شاملة على اساس قرارات الشرعية الدولية ومرجعية مدريد حتى لا يقع لبنان في الفخ الذي وقع فيه الآخرون فدخلوا "الحمام الاسرائيلي" ولم يعرفوا كيف يمكن ان يخرجوا منه حتى الآن. هذه المواقف الواضحة بددت الضباب الذي كان سائداً بعد الاعلان الاسرائيلي خاصة وان المعالجة كان يمكن ان تكون بسيطة وبلا اية تعقيدات حتى لا يترك المجال لأي تساؤل او استغراب. فالمخطط الاسرائيلي مكشوف وكان يمكن "الرد عليه برسالة قصيرة الى الامين العام للامم المتحدة كوفي أنان تقول: اخذنا علماً بقبول اسرائيل الانسحاب. نرجو ان تقوم الاممالمتحدة بمسؤولياتها في تنفيذ مضمون القرارين 425 و426 دون قيد او شرط". وبهذا ترمى الكرة الى ملعب الاممالمتحدة وتحرج اسرائيل ويقتنع الرأي العام اللبناني والخارجي بسلامة الموقف اللبناني. ولكن المخطط الاسرائيلي لم ينته فصولاً إذ ينتظر ان تعيد اسرائيل تصعيد الموقف، كما ان لجنة خاصة في الاممالمتحدة تقوم، بتفويض من أنان، بوضع تقرير عن مجمل التطورات وسط انتظار قلق ومخاوف من ان تنحاز الاممالمتحدة للتفسير الاسرائيلي خاصة بالنسبة للقرار 426 الذي يتحدث عن "ترتيبات" او ان يتخذ مجلس الامن قراراً يمتنع فيه عن التجديد لقوات الطوارئ الدولية في جنوبلبنان اذا لم يوافق لبنان على الطرح الاسرائيلي خاصة وان بعض الدول وبينها النروج قد بدأت تلمح الى انها ستضطر لسحب قواتها لأسباب خاصة بها!! والقرار الدولي ينتظر ان يصدر في الشهر المقبل تموز يوليو، ورغم رجحان كفة التمديد التلقائي فان الحذر واجب ويستدعي تحركاً سريعاً يستهدف احباط اية مؤامرة اسرائيلية وضمان دولة او دولتين، فرنسا والصين ضماناً اكيداً باستخدام الفيتو في حال طرح اي مشروع قرار في مجلس الامن يتماشى مع المخطط الصهيوني ويهدد مصير لبنان. ولا شك ان موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك يستحق الاشادة والشكر ويمكن البناء عليه في التصدي للهجمة الصهيونية المرتقبة ضد لبنان خلال الاشهر القليلة المقبلة. ويبقى سؤال اخير عن سبب تجميد الجولة المشتركة على عواصم القرار التي اتفق عليها في دمشق وكان من المفترض ان يقوم بها الرئيس رفيق الحريري ووزير الخارجية فارس بويز منذ عدة اشهر؟ وهل ان تأخير المواعيد يفسر وجود تحفظ دولي او مماطلة؟ ام ان الامر مرتبط بانتظار الفرص المناسبة لاقتناصها وفق مبدأ "حسن في أوانه كل شيء" وهل جاءت زيارة واشنطن ونيويورك ضمن هذا الاطار؟ وهل ستسفر اجتماعات الحريري مع الرئيس بيل كلينتون ومادلين اولبرايت وكوفي أنان عن متغيرات جديدة على الخارطة؟ بانتظار حل ألغاز هذا السؤال وغيره من الاسئلة الكثيرة والمطروحة يبقى لبنان في حالة "حذر وقلق" لن تزول الا بعد مرور "قطوع" الاستحقاق الكبير المتعلق بالقرار 425 وانقضاء الصيف "الساخن جداً"! * كاتب وصحافي عربي