يقرأ الشاعر العربي قصائده مترجمة الى اللغة الأجنبية فيفرح بها فرحاً يماثل ربّما فرح كتابتها. فالقصائد التي انتقلت الى لغة أخرى اكتسبت بريقاً آخر وأكسبت صاحبها استحقاقاً طالما حلم به. فانتقال الشاعر الى لغة أخرى يعني أوّلاً وأخيراً خروجه من حصار لغته الأم الى أفق العالمية، أياً كانت هذه العالمية. والفرح الذي يخالج الشاعر يخالج الروائيّ العربيّ أيضاً عندما يقرأ نفسه في لغة أخرى. وقد لا تعني ترجمة الرواية خروجاً الى العالميّة فحسب وإنّما دخولاً في سوق الرواية الرائجة جداً. فالرواية تملك قدرة على الانتشار لا يملكها الشعر، فهي تتوجه مباشرة الى جمهورها العاديّ الذي لا تنطبق عليه صفة النخبوية. قد يحقّ للكتّاب العرب أن يسعوا الى ترجمة آثارهم وإلى الانتقال إلى لغات أخرى، ويحق لهم أيضاً أن يستميتوا في سعيهم هذا مستخدمين كلّ ما أمكنهم من وسائل. فالعزلة العربيّة التي يعرفها أدبهم هي عزلة خانقة، والغربة التي يحيونها هم في مجتمعاتهم وفي ظلّ أنظمتهم هي غربة قاتلة. وقد تفتح لهم ترجمتهم الى اللغات الأخرى أفقاً ما كانوا ينتظرونه. ولعلّ الشعراء والروائيين الذين ترجموا الى اللغات الأجنبيّة وجدوا فعلاً في تلك الترجمة انتقالاً من حيّز الى آخر. وقد تنعّم بعض هؤلاء بما كُتب عنهم في الصحافة الأجنبية التي لا تولي الأدب الغريب اهتماماً إلا حين يُنقل الى لغتها. ووجد بعض هؤلاء في اللغات الأجنبية التي ترجموا اليها بعضاً من الشرعية الأدبية التي افتقدوها في أوطانهم. فاعتراف القارئ الأجنبيّ بهم لا بدّ أن يضمن اعتراف القارئ العربيّ بهم. وقد تكون حسنة الاعتراف هذه من أفضل الحسنات التي تزخر الترجمة بها. وكم من كتب لم تنل حقّها عربيّاً الا بعدما انتقلت الى لغات أخرى. غير أن العودة الى الكتب العربية المترجمة تكشف عن التباس عميق يسود جوّ الترجمة. فاختيار الكتب لم يخضع لمقاييس واضحة ولا لرؤية عادلة. فما ترجم حتى الآن لا يمثل واقع الأدب العربي ولا حقيقة التجربة الأدبيّة. ولم تنج عمليّة الاختيار من الحسابات الخاصّة التي جعلت العملية غير بريئة في بعض جوانبها. وان طغت الاعتبارات السياسيّة في فترة ما على عمليّة الاختيار فأنّ الاعتبارات الخاصّة تكاد تطغى اليوم عليها في ما تعني من علاقات وتنازلات وسواها. والكتب العربية التي تُرجمت لأنّها تستحقّ أن تُترجم قليلة فيما الكتب التي ترجمت وفقاً لاعتبارات معيّنة كثيرة وبعضها ربّما لا يستحق أن يترجم. والكاتب العربيّ الذي لا يملك علاقات طيّبة سواء مع الناشرين أو المترجمين أو سعاة "الخير" والوسطاء لن يحظى بأيّ ترجمة حتى وان ذاع صيته عربياً. والأمثلة كثيرة وواضحة وما من حاجة لذكرها. فكم من الأدباء الكبار حرموا "نعمة" الترجمة بينما حظي أدباء عاديّون بما لا يستحقونه من ترجمات. أمّا أطرف المقاييس التي يخضع لها الناشرون الغربيون والمترجمون فتلك التي تأخذ بالطابع "الأكزوتيكيّ" للروايات والكتب أو بالطابع الفضائحي والطابع الاستلابيّ. فالناشرون هؤلاء يبحثون غالباً عمّا يثير فضول قرائهم وليس عمّا يرسّخ الأدب المترجم في ذاكرة الأدب العالميّ. ولطالما أعرض هؤلاء عن بعض الكتب الجيّدة مختارين كتباً ترضي ذائقة القراء وتجلب اليهم المتعة. واللافت في الأمر أن بعض الكتّاب العرب تواطأوا في اللعبة التي يؤدّيها الناشرون الغربيون وراحوا يكتبون أدباً صالحاً للترجمة أكثر مما هو صالح لأن يقرأ عربيّاً. بل ان بعض هؤلاء شرعوا يكتبون عن موضوعات لا تعني قرّاءهم العرب طمعاً منهم في اغراء القرّاء الغربيين. ترى متى تصبح عملية الترجمة، بل عملية اختيار الكتب، عادلة وغير ظالمة؟ متى ينال كتّابنا العرب الكبار الذين لم يترجموا حقهم من الترجمة فيمثلون حقيقة التجربة الأدبية التي يشهدها عالمنا العربيّ؟ متى تصبح عمليّة الترجمة فعلاً حرّاً وحقيقيّاً