تزداد أعداد الذين ينجزون أعمالهم معتمدين على وسائل الاتصال من داخل بلدانهم أو خارجها إلى مختلف أنحاء العالم. وتترافق هذه الزيادة مع تعميم خدمات الاتصالات في العالم وزيادة امكانات تقديم الخدمات بنوعية عالية وأسعار معقولة تمكن المستهلكين من تحمل رسومها في شكل أفضل من السابق. وبمعنى آخر، فإن تطور الاتصالات جعلها أقل سعراً وأفضل نوعية. وبسبب هذا التعميم تحول كوكبنا إلى شبه قرية صغيرة يمكن الاتصال بمناطقه المتباعدة خلال ثوان معدودة. ويتوقع أن تشهد السنوات المقبلة مزيداً من التعميم ليتمكن المستهلك العادي من ارسال المعلومة واستقبالها والصوت والصورة في كل زمان ومكان من دون خوف من الأعباء المالية، ولذا فلا عجب ان يُسمى العصر الذي نعيشه ب "عصر الاتصالات" أو ب "عصر ثورة الاتصالات". تخصيص يُفسر تعميم خدمات الاتصالات على جميع فئات المستهلكين الأهمية الفائقة التي تعطيها دول العالم كافة لتطوير قطاع اتصالاتها بأقصى سرعة ممكنة. ووصل الأمر بالكثير منها إلى وضع برامج هذا التطوير على رأس قائمة تحديث بناها التحتية. ومنذ نحو عشر سنوات اتخذت هذه الأهمية أبعاداً جديدة تمثلت في إشراك متزايد للقطاع الخاص في شكل جزئي أو كلي أو في السماح له بإقامة مؤسسات مختلفة في قطاع الاتصالات. وخلال الأعوام القليلة الماضية ازدادت حمى تخصيص هذا القطاع، وبلغت ذروتها العام الماضي عندما تم تخصيص أكبر مؤسسة اتصال في العالم، وهي المؤسسة الألمانية "دويتش تيليكوم". ووصلت حمى التخصيص أخيراً إلى البلدان العربية، فمن المغرب إلى الكويت، مروراً بتونس ومصر والأردن والسعودية يتدافع المسؤولون للاعلان عن برامج تخصيص القطاع في أسرع وقت ممكن. وعلى رغم أن "العجلة من الشيطان"، في شكل عام، فإن شعار "خير البر عاجله" يتناسب أكثر مع القرارات والخطط المتعلقة بعالم الاقتصاد والأعمال، لا سيما في عالم الاتصالات. وسواء تم التخصيص بسرعة أو ببطء فإن هناك شروطاً لا بد من مراعاتها بهذا الخصوص. شروط أهم شروط تخصيص قطاع الاتصالات هي: 1- تجنب تهيئة الظروف المؤاتية لنشوء الاحتكارات وما يشابهها ذلك أن أسوأ ما يمكن عمله على صعيد تخصيص قطاع ما هو اعطاء امتيازات لمؤسسة معينة تستطيع من خلالها احتكار أو ما يشبه احتكار النشاط فيه على حساب المؤسسات الأخرى التي تقوم بأنشطة مماثلة. وتدل تجارب مختلف البلدان ان الاحتكار لا يقود الى نتائج حميدة سواء تم من قبل مؤسسات القطاع العام او القطاع الخاص. واثبتت التجارب ان المؤسسات التي تتمتع بوضع احتكاري تهمل في معظم الأحيان عملية التطوير الضرورية للقطاعات التي تسيطر عليها لعدم تعرضها لضغط المنافسة من قبل الآخرين. ومع اهمال التطوير تسوء نوعية الخدمات والمنتجات التي تقدمها وتزداد أسعارها. وتصبح المسألة اكثر تعقيداً وخطورة عندما يتعلق الأمر بخدمات عامة وحيوية لا يمكن الاستغناء عنها في الحياة اليومية مثل خدمات الاتصالات. فسوء نوعية هذه الخدمات وغلاء اسعارها او انقطاعها لا يعرقل سير الحياة الطبيعية في مجتمعات اليوم وحسب، بل يشل الحركة في مختلف الانشطة ولاسيما الاقتصادية منها. ويذكر ان خدمات الاتصالات اصبحت تشكل احد اهم المرتكزات الرئيسية لعالم الأعمال اليوم. وبدلاً من اعطاء الامتيازات التي توفر شروطاً مؤاتية لنشوء الاحتكار او ما يشبهه فمن الأفضل تخصيص قطاع الاتصالات على اساس تشجيع روح المنافسة بين المؤسسات التي تريد النشاط فيه. وينبغي لهذا التشجيع ان يتم في اطار يحفزها على تقديم خدماتها بنوعية افضل واسعار انسب. ويمكن ايجاد هذا الاطار من خلال تحقيق تكافؤ للفرص بينها في ما يتعلق بحدود النشاط والتسهيلات والواجبات الملقاة على عاتقها. وربما قال قائل ان طبيعة قطاع الاتصالات تعيق تعدد وتنوع مؤسساته بحجة ان الاستثمار فيها يتطلب رؤوس اموال ضخمة لا يستطيع القطاع الخاص في غالب الاحيان تحملها. ولكن هذه الحجة التي سادت حتى اواسط الثمانينات لم تعد صالحة، اذ ادى التقدم التكنولوجي الذي شهدته صناعة الاتصالات الى تخفيض اكلاف اقامة انظمة اتصالات متعددة في شكل لا مثيل له في السابق. وبفعل ذلك اصبح بالامكان اقامة مشاريع ومؤسسات اتصالات من الحجمين المتوسط والصغير نتيجة للوفورات التي تحققت من خلال هذا التخفيض. كما اصبح ايضاً بامكان مؤسسات متعددة استخدام واستئجار شبكة مشتركة او شبكات بعضها البعض من دون حدوث تداخل على صعيد الرسوم والاعباء الاخرى التي تلقى على عاتقها وعلى عاتق زبائنها. وتتمثل هذه الامكانية بتركيب اجهزة وعدادات تستطيع فرز الاعباء عن بعضها بعض. 2- ضمان استمرار عمليات التطوير للمؤسسات التي يتم تخصيصها اذ اظهرت صفقات تم بموجبها بيع مؤسسات عامة الى القطاع الخاص ان الكثير من السلطات لا تحيط بمختلف جوانب عملية التخصيص وملابساتها الاقتصادية والاجتماعية كما ينبغي. وبالتالي فان الكثير من عقود البيع تمت وتتم من دون ان تحدد الضمانات لاستمرار وتحسين أداء المؤسسات المباعة من خلال القيام بعمليات الصيانة والتطوير اللازمة لها. ويفسر هذا الامر اتمام عقود بيع سيئة في بلدان عدة مثل المانيا وروسيا وغيرهما. ويمثل انقطاع الكهرباء في مدينة اوكلاند الينوزيلاندية التي يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة في الربع الاول من السنة الجارية ولمدة تجاوزت الشهرين صورة شنيعة لمثل هذه العقود، اذ كان سبب الانقطاع عدم قيام شركة "ميركوري انرجي" التي اشترت مؤسسة الكهرباء هناك قبل نحو ست سنوات بأعمال الصيانة والتطوير اللازمة للشبكة. وساعدها على ذلك عقد البيع الذي لم يتضمن ما ينص على الزامها بالقيام بذلك. وأثار الحادث موجة عالمية من ردود الافعال التي لم تخمد بعد وتطالب بأن تنص عقود بيع المؤسسات العامة وخاصة في مجالات البنية التحتية كهرباء، اتصالات… الخ على ضوابط صارمة تلزم الطرف الشاري بالقيام باعمال الصيانة والتطوير في شكل مستمر ومن دون تأخير. ومن ناحية أخرى، فإن على هذا التطوير ان يؤدي الى تلبية الحاجات المتزايدة للمناطق التي تشملها خدمات المؤسسات المباعة على الاقل. ويجب ان تنص عقود البيع ايضاً على عقوبات قاسية في حق الشركات المخالفة. كما يجب ان تزيد اضرار هذه العقوبات على الوفورات المتحققة من خلال عدم القيام بعملية التطوير. 3 - التزام القطاع الخاص بتقديم خدمات الاتصالات بنوعية جيدة واسعار معقولة ان سياسات تخصيص قطاع الاتصالات ينبغي ان لا تنطوي فقط على منع الاحتكار وضمان مستقبل عملية التطوير. فمن اهم ما ينبغي ان تنطوي عليه ايضاً تحسين مستوى الخدمة وبقاء الاسعار في مستويات يستطيع المستهلك تحملها. وبمعنى آخر، فإن التخصيص يجب ان يهدف في شكل رئيسي الى زيادة الكفاءة. اما ثمار تحسن مستوى الانتاجية فمن العدل ان يكون من نصيب المنتجين والمستهلكين. وهنا تنبغي الاشارة الى انه من الطبيعي ان يسمح للقطاع الخاص بتحقيق الربح ولكن ليس الربح الفاحش على حساب اعمال الصيانة والتطوير والرسوم التي يدفعها الزبائن. انخفاض الرسوم لا تزال رسوم خدمات الاتصال في بلداننا العرية عالية. وفي الكثير منها تعتبر تلك الرسوم الاغلى في العالم قياساً الى مستوى الدخول. ويلاحظ أن هذه الاسعار لا تزال عالية حتى في البلدان العربية التي قطعت شوطاً جيداً في مجال تخصيص قطاع الاتصالات كلبنان والى حدّ ما الاردن وغيرهما، اذ تصل كلفة الاتصال الهاتفي هناك الى دولار اميركي أو أكثر للدقيقة الواحدة من محافظة الى اخرى لدى شركات الاتصال الخاصة بالهواتف اللاسلكية. وفي المقابل فان كلفة الدقيقة المماثلة في المانيا تقل على 80 سنتاً. وبالنسبة إلى خدمات الاتصال السلكية في البلدان العربية والتي لا تزال تملكها الدولة، فإن أسعارها ايضاً مرتفعة. وما يدل على ذلك قيام عدد كبير من المستهلكين بالاكتفاء بخدمة الاستقبال والاستغناء عن خدمة الارسال. فمعظم البلدان العربية أعلنت اخيراً عن خططها لتخصيص شبكات الاتصال السلكية، وفمن المفيد قبل قيامها بذلك التأكد من أن خدمات هذه الشبكات ستستمر بنوعية افضل واسعار انسب. وعليها ان تتمثل بهذا الخصوص بتجربة تخصيص قطاع الاتصالات الالماني. فبعد مرور أقل من خمسة أشهر على تخصيص قطاع الاتصالات في المانيا وصل عدد الشركات التي تم تأسيسها في القطاع على الأراضي الألمانية الى نحو مئة شركة. وانخفضت اسعار خدمات الاتصالات هناك بنسب تتراوح بين 15 و45 في المئة حسب الموقع الجغرافي لمنطقة الاتصال ما أثار فرح المستهلكين، من وبينهم كاتب هذه السطور المقيم في برلين. وبالفعل قمت الشهر الماضي بتسديد فاتورتي عن رسوم الهاتف بقيمة تقلّ على 30 في المئة عما كنت ادفعه سابقاً للخدمة نفسها. لذلك فإن قيام السلطات المعنية في بلداننا العربية بالتخصيص مع مراعاة حقوق المستهلكين وحقوق القطاع الخاص سينعكس ايجاباً على خدمات الاتصالات ويجعلها أكثر شيوعاً في هذه البلدان. * اقتصادي سوري - جامعة تشرين.