ينبغي معرفة مدينة باريس جيداً، لكي يستطيع القارىء أن يعي ما الذي يريد أن يقوله فيليب دولرم في روايته "كانت تمطر كل ذلك الأحد"، وفي كتابه: "أول جرعة بيرة وملذات بسيطة أخرى". لأن يوم الأحد في باريس هو يوم الضجر بامتياز، أمّا إذا كنت سيء الحظ، فما عليك سوى قضاء بضعة أيام خلال شهر آب أغسطس في باريس حيث المحلات مقفلة والمقاهي فارغة إلاّ من الأجانب" وإذا كنت مدخناً، ولم تكن لديك ما يكفي من السجائر، فهذا يعني أحياناً قضاء أكثر من نصف النهار بحثاً عن بائع تبغ. يمكن لك أن تتنقل بين مقهى "لابليو" Le bullier ومقهى "كلوزيري دوليلا" Closerie des lilas، عند تقاطع بولفار السان ميشال وبولفار المونبارناس، وصولاً الى بولفار السان جرمان حيث مقهى "الكلوني" Cluny، والمرور أمام جامعة السوربون المقفلة. ذلك أن يوم الأحد، هو يوم عطلة فعلية" ومن تعوّد على القراءة والكتابة في المكتبة الوطنية B.N فعليه انتظار صباح يوم الاثنين عند الساعة الثامنة تماماً، لاختيار المقعد المناسب 161 مثلاً، ووصول الكتب المطلوبة وهذا ما يسمح له بقراءة جرائد الصبح خلال نصف ساعة وهو الكافي لوصول الكتب المطلوبة وبداية القراءة والكتابة و"التفييش". الصيف هو شهر العطلة والتسلية" بالعودة الى مجلة "الأكسبرس" العدد 2274 نقرأ على الغلاف العنوان التالي: "صيف 1964، الفرنسيون يكتشفون حضارة التسلية". ونقرأ في مجلة "الأكسبرس" العدد 2126 - 11 نيسان / ابريل 1992: "انه الأمس... كيف تغيرت الحياة اليومية للفرنسيين خلال ثلاثين سنة". يمكن اختصار صفات المجتمع الفرنسي بأربع كلمات: الاستهلاك، المعارضة الديموقراطية يمين - يسار، وسائل الاعلام، والتسلية، وهكذا يمكن لنا أن نفهم ما الذي يقوله عالم الاجتماع جوفر ويمازيديه في كتاب له عنوانه: "نحو حضارة التسلية؟" منشورات سوي، 1962. رواية فيليب دولرم: "كانت تمطر كل ذلك الأحد"، رواية باريسية، انها قصة سبيتزفاغ الذي يقيم في الدائرة الثامنة عشرة، في شارع ماركاديه ورقم البناية 226" وبالعودة الى دليل مدينة باريس، فإن ماركاديه هو ذلك الشارع الممتد من محطة المترو غي موكية حتى محطة ماركاديه، قريباً من مقبرة الشمال التي لا يرد ذكرها في الرواية. والرواية تدور احداثها بين شهر تشرين الأول أكتوبر وشهر تشرين الأول من السنة التالية. تبدأ الرواية بالجملة التالية: "ينبغي العيش في باريس". والمواطن بطل الرواية مشغول دائماً بقضايا الحياة اليومية، تماماً مثل ميرسو بطل رواية "الغريب" لألبير كامو. ان ما يثير انتباه السيد سبيتزفاع هو الهاتف المحمول الخليوي، وهو يتنقّل بين محلات بيع اللحوم المجففة وأماكن أخرى، ولكنه لا يحبّ المتاحف ويفضل معارض اللوحات الفنية" كما أنه يفضل الغليون على السيجارة. وهو من خلال تجواله يصف مدينة باريس، ويستمر على كرهه لزيارة الطبيب والبقاء مسمّراً في غرفة الانتظار ص 30، وفي غرفة الانتظار يفضّل مراقبة الآخرين، لأنه مشاهد من الطراز الأول ص 34. وإذا كان ثمة مفاضلة بين أماكن عدة، فإن سبيتزفاغ يفضل مكتبة فرانسوا ميتران، ومركز جورج بومبيدو الثقافي، ولكنه لا يحبّ منطقة الايفانس بأبراجها العالية على الطريقة الأميركية، يصف بطل الرواية مدينة باريس كما يحلو له مختاراً منطقة "البالية - روايال" في الدائرة الأولى، قريباً من متحف اللوفر والمكتبة الوطنية، ولكنه في كل هذا يذكّرنا بأنه كان تلميذاً ذا ضمير، شارد الذهن دائماً، ولم يكن بارعاً، ومنذ انتهاء دراسته، بات يكتفي بقراءة الجريدة اليومية والذهاب قليلاً الى المسرح ونادراً الى السينما. ولكنه يتمتع بذاكرة قوية، فهو يتذكر تواريخ الأفلام، ونتائج الانتخابات، ولا ينسى تواريخ الصراعات الدولية والمباريات الرياضية ويعرف دائماً كل الأسماء وكل الأرقام ص 100. والسيد سبيتزفاغ على حق في حديثه عن الضواحي، فهو يقول "اني لأتساءل كيف يمكن العيش في الضاحية" ذلك أن أبشع ما في باريس هو العيش في الضواحي البعيدة عن وسط المدينة. وإذا كان أبناء باريس يجدون مشقة في تمضية يوم الأحد في المدينة فإن الضواحي هي جحيم الحياة اليومية، وبشكل خاص يوم الأحد؟ ان ضاحية مثل مونتراي Montreuil وهي معقل الشبيبة الشيوعية J.C، ومعقل الاتحاد العمالي العام C.G.T، تذكّر بكتب القراءة الفرنسية التي تصوّر باريس وكأنها مدينة رمادية. كتب القراءة الفرنسية في النصف الأول من السبعينات كانت تسعى لإعطاء صورة معينة عن فرنسا وكانت في أربعة أجزاء هي على التوالي: "نحو فرنسا"، "في باريس"، "في فرنسا"، و"الحضارة الفرنسية"، أتذكر الآن كتاب: "في فرنسا"، ولا أنسى صورة منطقة مونتراي Montreuil حيث أقمت لفترة وجيزة بعيداً عن الحي اللاتيني، فأتخيلها رمادية خريفية تثير الكآبة. وكما ورد سابقاً عن شهر آب في باريس، فإن السيد سبيتزفاغ لا يحبّ أيام العطلة الصيفية" فمنذ منتصف شهر تموز يوليو، يخلو شارع ماركاديه، ويصبح بالإمكان إيقاف السيارة أينما كان" وأهل باريس يتجهون نحو النورماندي شمالاً أو الكوت دازور جنوباً، هرباً من روتين الحياة اليومية الرتيبة. انه الصيف مجدداً، والسيد سبيتزفاغ يتسكع في بولفار سان جرمان بحثاً عن الزمن الضائع. ص 90 - 91، إن رواية فيليب دولرم "كانت تمطر كل ذلك الأحد"، هي رواية دائرية، تبدأ في تشرين الأول وتنتهي في الشهر عينه من العام التالي، لتغطي حياة المواطن سبيتزفاغ خلال سنة كاملة، ولكن لا مجال للحديث عن بنية روائية متماسكة، أو سيرة حياة غنية، انها باختصار حياة انسان يعيش برتابة في هذه المدينة الذائعة الصيت. نشر المؤلف روايته في شهر آذار مارس 1998، أي بعد عشرة أشهر من نشر كتابه "أول جرعة بيرة..."" وكأنه بذلك أراد أن يشرح للقارىء ما قاله في كتابه الأول. ومن خلال مراجعة المجلات الفرنسية الأسبوعية، فإن كتابه "أول جرعة بيرة..." ما زال في صدارة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا" مجلسة "الأكسبرس" العدد 2447-3-حزيران / يونيو 1998. وبعد 54 أسبوعاً على نشر هذا الكتاب، ما زالت تضعه في مرتبة الرواية الثالثة الأكثر مبيعاً" أمّا مجلة "لوبوان" العدد 1340، 23 أيار / مايو 1998 فما زالت تصنفه على أنه الرواية الثانية الأكثر مبيعاً، ولكن هل يتعلق الأمر فعلاً برواية؟. ان كتاب فيليب دولرم أقرب ما يكون الى خواطر ذاتية منه الى رواية، وهو يذكّر، دون أدنى ريب، بكتاب رولان بارت: "ميتولوجيا". ومن خلال ست وثلاثين عنواناً، يحاول الكاتب أن يسرد الحياة اليومية للمواطن الفرنسي عموماً والمواطن الباريسي بشكل خاص. إن عناوين الكتاب لا تثير الحشرية "السكين"، و"الكاتوه يوم الأحد"، و"ما قبل الغداء"، و"تناول البورتو"، و"رائحة التفاح"، الخ.... تحت عنوان "ضجيج الدينامو"، يكتب المؤلف ما معناه، ان صباحات الطفولة تعود مع ذكرى الأصابع المتجمدة، ومساءات الصيف حيث كنا نذهب الى المزرعة المجاورة لجلب الحليب!. وهو مشغوف دائماً بالخريف، حيث كل شيء يعود ليبدأ من جديد، وذلك التسكع الأخير الذي يذكّر بشهر أيلول سبتمبر، ص 23 - ص 29. ولأن الحديث يدور عن باريس، فلا بدَّ من ذكر الكرواسان والمترو والأوتوبيس. ان حياة المواطن الباريسي تختصر بالكلمات الثلاث التالية: المترو - العمل - النوم، ولكن هذا المواطن لديه ملذات بسيطة: انه يذهب الى السينما، ويتناول راحة الحلقوم لدى العربي، ان راحة الحلقوم المرغوب بها هي تلك الموجودة في الشارع، نراها على شكل هرم متواضع، قرب علب الحنة. ومساء يوم الأحد، ليس بالإمكان التفكير بالأسبوع الفائت ولا بالأسبوع المقبل. وفي السينما، ليس باستطاعة المرء أن يكتشف ذاته، إنه يخرج من منزله لكي يخبىء ذاته. وهو - أي هذا المواطن - يستمع الى الأخبار نفسها في المذياع، وهذا ما يؤدي الى السقوط مجدداً تحت ضغط نفسي ص 70" ويخطر له في "كابين الهاتف" أن يتحدث عن باريس لأن الصوت القريب والبعيد يقول لك بأن مدينة باريس لم تعد منفى ص 87. ان هذا المواطن، رغم كل الضغط النفسي، هو ذلك الذي يشتري قطعة الكرواسان صباحاً، ويشرب البورتو، ويتناول الغداء في المطعم أحياناً، ويذهب الى السينما نادراً، وخلال عطلة الصيف يختار الذهاب الى البحر حاملاً كتابه بيده، ويتابع أخبار سباق الدراجات، ويذهب الى المجمّع التجاري في برج المونبارناس، ويقرأ جريدة الصباح مع تناوله طعام الفطور صباحاً، ويتسكع في منطقة المونبارناس وفي بولفار السان جرمان. انه مواطن عادي، يعيش حياته كما يفعل كل المواطنين. والراوي في كتاب فيليب دولرم: "أول جرعة بيرة..." هو قرين المواطن سبيتزفاغ في رواية "لقد كانت تمطر كل يوم الأحد". هل الأمر يتعلق برواية؟ نعم، لا، ربما!. في كتاب "عالم الرواية" لمؤلفيه بورنيف وأواليه، يدرس المؤلفات الرواية من مختلف جوانبها، ولكن ما يقوله المؤلفان لا ينطبق تماماً على كتاب "أول جرعة بيرة...". كان آلان روب - غرييه قد وضع كتابه "من أجل رواية جديدة"، ولكن ما قاله المؤلف لا يمت بصلة الى كتاب دولرم. الرواية الجديدة عند آلان روب - غريية وناتالي ساروت ومشال بيتور، لا علاقة لها هي أيضاً بكتاب دولرم... يمكن لنا أن نفهم لماذا استطاعت رواية فيليب دولرم: "أول جرعة بيرة..."، أن تكون في طليعة الكتب الفرنسية الاكثر مبيعاً، فهو أي المؤلف يودّ بكل بساطة أن يتحدث عن الحياة اليومية بكل تفاصيلها الرتيبة والممّلة، وقد نجح في ذلك، لأن حياة ابن باريس أو المقيم فيها تختصر بالكلمات التالية "المترو - العمل - النوم"، وبين هذا الثالوث، تتحول الحياة الى رتابة تقطعها الملذات البسيطة. لم يتحدث المؤلف عن برج إيفل، أو عن اليمين واليسار، أو وصول شيراك الى سدّة الرئاسة، أو عن التعايش السياسي شيراك وجوسبان. انها الحياة التي لا بدّ منها، ويمكن الاعتقاد أن هذه الرواية هي الأكثر مبيعاً في باريس، لأن ابن باريس يودّ ان يقرأ كتاباً عن حياته هو، ولقد نجح المؤلف في اعطاء ابن باريس صورةً عن الرتابة كما هي. وكم تبدو المسافة بعيدة بين مجلة "لوماغازين ليتيرير" ]العدد 365 - أيار 1998[، حيث الحديث يدور عن التمرد وثورة الطلاب ]أيار - 1968[ واستفتاء رأي الذين شاركوا في هذه الثورة، تحت عنوان "مستقبل ثورة"، وبين الحديث عن مدينة باريس في السنوات الخمس الأخيرة من هذا القرن العشرين، حيث باريس هي مدينة يوم أحد ابن كلب، يوم أحد لا يرحم المواطن بضجره الرتيب والملل الذي لا بدّ منه. ينتظر المواطن يوم الأحد ليستريح من عناء العمل، فيفاجئه هذا اليوم بساعات ثقيلة لا تمرّ إلاّ ببطء. اقرأوا كتابي فيليب دولرم واشكرو الله لأنكم ولدتم بعيداً عن باريس. - Philippe Delerm. - "La premiڈre gorgژe de biڈre et autres plaisirs minuscules" Paris Ed. Gallimard' 1997. - Philippe Delerm. - "Il avait plu tout le dimanche"; Ed. Mercure de France; 1998.