خرجت بيروت معافاة من معركة انتخاب اعضاء مجلسها البلدي 24 عضواً، واقترعت لمصلحة الوفاق الوطني على نحو حقق التوازن الطائفي والمذهبي وقطع الطريق على بعض الذين يتخوّفون من الا يأتي الاقتراع متوازناً، واقترحوا تارة موجة تأجيل الانتخابات وأخرى اقرار قانون بلدي جديد يأخذ في الاعتبار تقسيم العاصمة دوائر عدة. وترافق الاستحقاق البلدي في بيروت مع ادارة لعملية الاقتراع من نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر العملية الانتخابية، على الصعيد الامني توخت الحياد في ظل انتشار الجيش المكلف حماية الاجواء الانتخابية، في ضبط الامن. وهذا ساهم في رفع حجم المشاركة السياسية بصرف النظر عن نسبة المقترعين. واذا كان من نجاح يسجّل ايضاً، فهو الاقتراع المتوازن للناخبين على رغم حصول تشطيب لم يؤدِ في النهاية الى احداث خلل في التوزيع الطائفي، سوى ان حصة الشيعة تقلصت من ثلاثة اعضاء الى عضوين، من دون ان يتسبب ذلك بضجة سياسية. وفي ضوء النتائج التي اسفرت عنها الانتخابات البلدية، تُسجل الملاحظات الآتية: - ان رئيس الحكومة رفيق الحريري تحمّل القسط الاكبر من المسؤولية في الدفاع عن الاقتراع المتوازن، وقاتل من أجله في اللقاءات المفتوحة التي عقدها مع وجهاء العائلات البيروتية، وحالَ دون جنوح البعض الى الاقتراع للون واحد. - ان رئيس الحكومة نجح في ان يتغلب على الذين كانوا يعارضون انتخاب مرشحين ينتمون الى بعض القوى السياسية من رموز الحرب، وخاض معهم معركة قاسية أدت في نهاية المطاف الى ترويض الشارع السنّي لمصلحة انتخاب مرشحين من حزب الكتائب وتيار "القوات اللبنانية"، اضافة الى نجاحه في اقناع معظم المفاتيح الانتخابية بدعم الاقتراع الذي يؤمن الحد الادنى من التوازن. - ان الرغبة القاطعة التي أبدتها دمشق في عدم التدخل في بيروت اسوة بموقفها من الانتخابات البلدية في الجنوب والشمال وجبل لبنان، تميّزت هذه المرة بالدعوة الى الحفاظ على التوازن البلدي. وهذا ما سهّل الطريق امام رئيس الحكومة في ضمّ حزبيين الى لائحة "التوافق البيروتي" وبالاخص عن الافرقاء المسيحيين من خلال اطلاق الحرية للوزير السابق فؤاد بطرس في تدبير شؤون البيت المسيحي وصولاً الى اختيار المرشحين اي لم يكن هناك فيتو سوري على أي مرشح، بغضّ النظر عن ميوله الحزبية ومواقفه السياسية. - ان النتائج أدت الى تنفيس الاحتقان في الشارع المسيحي من جهة والتخفيف من التوتر السياسي الذي يسود علاقة بعض من فيه بالبعض الآخر في الشارع الاسلامي من جهة ثانية. - ان الائتلاف البيروتي نجح في ان يجمع تحت سقفه مجموعة من القوى المتناقضة سياسياً، وان كان في درجة أقل في داخل "لائحة بيروت" التي ضمّت مرشحين مقرّبين من التيار العوني وندوة العمل الوطني التي أسسها الرئيس الدكتور سليم الحص والحزب الشيوعي اللبناني وتجمع اللجان والروابط الشعبية خاض الانتخابات بمرشحين اثنين على لائحتين والنائب نجاح واكيم. ولم يكن هذا الحشد من القوى في لائحة "التوافق البيروتي" الا لضمان تحقيق التوازن والحؤول دون حصول الخلل فضم رئيس جمعية المقاصد النائب تمام سلام و"حزب الله" و"الجماعة الاسلامية" وحركة "أمل" والمرشحين المسيحيين الذين نجح الوزير السابق فؤاد بطرس في تأمين التوافق عليهم. - ان الانتخابات البلدية شكّلت فرصة للذين ذهبوا بعيداً في طروحاتهم السياسية، للعودة الى التواصل مع الآخرين من خلال قيام تعاون بلدي يمكن ان يمهّد الطريق لكسر الجليد السياسي لمصلحة فتح حوار دائم يتجاوز هموم العاصمة الى القضايا السياسية العالقة. - ان تعدد الآراء داخل المجلس البلدي الذي يضم 23 عضواً عن "لائحة التوافق" وعضواً عن "لائحة بيروت"، ومن مواقع الاعضاء المعارضين والمعترضين يمكن ان يسهم في انعاش الحياة السياسية من ناحية وفي تأهيل كوادر بلدية ليكون لها حظ في الاشتراك في الانتخابات النيابية عام 2001، على غرار ما هو حاصل الآن في الدول الاوروبية". - ان المرشحين الذين لم يحالفهم الحظ، وهم كُثر، سجّلوا حضوراً بلدياً، ونجحوا في الحصول على أرقام لا يستهان بها خصوصاً انهم خاضوا الانتخابات في منافسة مع "لائحة التوافق". وعليه، ان ما تحقق في بيروت من توازن وطني حال دون العودة بلبنان من خلال العاصمة الى الوراء بتكريس صورة طبق الاصل عن النزاعات الحزبية والسياسية التي كانت سائدة خلال الحرب، كان يمكن تحقيقه في طرابلس لو أجمع من فيها على مرجعية واحدة أوكل اليها اخراج الائتلاف البلدي من المأزق، اسوة بالدور الذي أداه رئيس الحكومة بايصال حلف من الاضداد بالمعنى السياسي الى المجلس البلدي، للحفاظ على التوازن وعدم تعريض البلد الى انتكاسة سياسية يصعب التغلب على نتائجها أو مقاومة آثارها السلبية لجهة حصول فرز طائفي ومذهبي لا يمكن معالجته من خلال اللجوء - بعد خراب البصرة - الى التقسيم الاداري كأمر واقع. ولا يعني ان تجميع القوى تحت سقف بلدي سيؤدي حتماً الى فقدان الانسجام، بمقدار ما ان اعتماد الحوار المفتوح من دون مواقف مسبقة سيقود الى تعاون مثمر لمصلحة العاصمة. من هنا، جاءت نتائج الانتخابات البلدية في بيروت وصيدا وصور لا لتعويض الخلل الذي حصل في عاصمة الشمال وحسب وانما ايضاً لتأكيد الرغبة في حفظ التوازن. واذا كان لا بد من اعادة النظر في القانون البلدي فليتم ذلك بعيداً من تقسيم العاصمة كانتونات مذهبية أو طائفية تحت ستار انه الحل الأفضل لتكريس التوازن، خصوصاً ان بيروت لم تشهد اختباراً للقوة بل امتحاناً للعيش المشترك. وثمة استنتاجات أولية اخرى لا بد من تسجيلها في شأن انتخابات بيروت، منها ان الناخبين، لم يقترعوا جميعاً ل24 مرشحاً، انما جاء الاقتراع في معدله الوسطي ل17 مرشحاً، ما يعني ان تشطيباً لا بأس به حصل وطال حوالي ثلث المرشحين. وفي المقارنة مع الانتخابات النيابية التي جرت عام 96، فان الاقتراع المسيحي كان اكثر، فيما انخفض المقترعون الارمن، كذلك المناصرون ل"حزب الله"، ما انعكس تراجعاً في كثافة الاصوات الشيعية التي لعبت دوراً في العام 96 في ترجيح اختراقات للمعارضين. كما ان تشطيباً حصل على نطاق واسع من المقترعين لمرشح أو اثنين من المرشحين الشيعة. واذا كان التشطيب ظاهرة طبيعية، خصوصاً في الانتخابات البلدية، والتمثيل المحلي، فبسبب تداخل العوامل السياسية مع التحالفات الانتخابية الظرفية. وهو ظاهرة برزت في اوساط المقترعين كافة في العاصمة المسيحيين منهم والمسلمين. وقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى في حصول المرشحين السنّة على اللوائح كافة في المرتبة الاولى