لا يدعي الدكتور محمد الحداد في كتابه الصادر أخيراً في بيروت "الأفغاني صفحات مجهولة من حياته: دراسات ووثائق" بأنه يقدم الكلمة الفصل في حياة هذا المفكر الذي احتفل العالمان العربي والإسلامي العام الماضي بالذكرى المئوية الأولى على وفاته في استنبول يقال إنه مات مسموماً في عاصمة السلطنة العثمانية العام 1897، وهو احتفال شهد عشرات المقالات والأبحاث التي ما زالت تختلف في هوية "جمال الدين الأفغاني" تماماً كما اختلف حولها المعاصرون له أو الذين جاءوا من بعده. والفكرة الأساسية من هذا الكتاب، الذي يضم وثائق جديدة للأفغاني أو عنه تنشر للمرة الأولى بالعربية، هي ان يعاد طرح موضوع حياة الأفغاني ومساهماته الفكرية في أواخر القرن الماضي ودوره في الحركة النهضوية العربية والإسلامية آنذاك وتأثيره في بعض رموز التجديد والاصلاح العرب أمثال الإمام محمد عبده والشيخ رشيد رضا، وذلك من دون الوقوع في المهاترات العاطفية التي تسعى إلى "توظيف شخصية الأفغاني في الصراعات السياسية" على حد تعبير الدكتور الحداد في تقديمه للكتاب الجديد. والواقع ان الأفغاني يحتمل الكثير من التأويلات نظراً إلى الاشكالات المتعددة المحيطة بحياته وعلاقاته ونشاطاته وكتاباته. ومثل هذا الغموض ساهم في بروز تيارين واسعين من حوله في حياته وبعد مماته: الأول يعتبره من أبرز رواد الاصلاح والتجديد في العالمين الإسلامي والعربي خلال القرن الماضي، والثاني يشكك بأهدافه وخلفياته وعلاقاته، وينظر إليه باعتباره خنجراً في خاصرة الأمة الإسلامية ومخلباً للاستعمار في جسدها المنهك في تلك الفترة. والظاهر، على ما يقول الدكتور الحداد، ان الحقيقة غابت "بين التوظيف والتوظيف المضاد، بين الإطراء المفرط حيناً والتجاهل البغيض أخرى". ويبدأ المؤلف بحثه، أو بعبارة أصح مشروعه للبحث الجماعي في شخصية الأفغاني وكتاباته، بطرح مجموعة واسعة من الأسئلة الاشكالية المستمرة منذ وفاة الأفغاني: هل ولد في أفغانستان أم في إيران؟ هل كان سنياً أم شيعياً؟ هل كان عميلاً لروسيا في أفغانستان؟ هل كان عميلاً لإيران في الهند؟ هل كان عميلاً لفرنسا في مصر؟ هل كان مع الجامعة العثمانية أم ضد السلطان عبدالحميد؟ هل كان رجل دين أم رجل سياسة؟ هل كانت الجمعيات السرية التي ينشئها ماسونية أم صوفية؟ هل كان يدافع عن الدين أم يسخره في خدمة مشاريعه؟ هل كانت هذه المشاريع للاصلاح السياسي أم للمجد الفردي؟ كيف كان يحصل على الأموال التي مكنته من السفر شرقاً وغرباً والإقامة في عديد من البلدان دون ان يكون احترف مهنة؟ كيف كان ينجح بسرعة في مقابلة أكبر الزعماء والقادة في البلدان التي يحل بها فيتفاوض معهم تفاوض الند مع الند؟ ما سر تلك الجاذبية التي حظي بها بين اتباعه وتلاميذه لدرجة ان بعضهم فقد حياته أو ثروته خدمة له؟ كيف عاش الرجل دون زواج في مجتمع شرقي وهل كانت له علاقات عشق؟ ما هي اللغات التي أتقنها فعلاً؟ هل كان يكتب مقالاته أم يحررها له غيره؟ هل اسمه الكامل جمال الدين أسد ابادي أم جمال الدين الحسيني أم جمال الدين الرومي أم جمال الدين الكابولي أم جمال الدين الطوسي أم جمال الدين الاستنبولي أم جمال الدين الأفغاني؟ قد تبدو لائحة التساؤلات طويلة جداً، لكنها متوقعة في ما يتعلق بحياة هذا المفكر الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" في النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. وكما قلنا في بداية هذه المراجعة، فإن الدكتور الحداد ليس بصدد الإجابة عن كل هذه الجوانب، وإنما هو يسعى إلى شيئين أساسيين: مشروع بحث جماعي حول الأفغاني اعتقاداً منه بأن التعاون بين الباحثين هو السبيل لتجاوز العوائق في طريق البحث. ثم مجموعة من الوثائق المعربة حول الأفغاني "لا شك أنها ستثير استغرابه وتدفعه إلى الشك في الصورة السائدة حول هذه الشخصية". يتضمن القسم الثاني من الكتاب ثلاث عشرة وثيقة قسّمها الدكتور الحداد إلى مجموعتين تتضمن الأولى الوثائق المتعلقة بالأفغاني "وهي تشترك في تقديم صورة عنه غير مألوفة". وهذه الوثائق: 1- تقرير رئيس الشرطة الفرنسية إلى مدير شؤون الاجرام في لندن حول نشاطات جمال الدين الأفغاني في باريس 1883. 2- تقرير حول الأفغاني أعدته مصالح الشرطة بباريس سنة 1884. 3- مقال نشرته صحيفة "باريس" الفرنسية حول أعمال ابتزاز اتهمت الأفغاني بالتورط فيها 1884. 4- رد الأفغاني على المقال السابق. 5- رد كاتب المقال على الرد وتقديمه معلومات أخرى مثيرة 1884. 6- محاورة مدير صحيفة باريسية للأفغاني 1885. 7- صفحات حول الأفغاني سجلها هنري روشفور في مذكراته. 8- ترجمة الأفغاني بقلم سليم عنحوري 1885. أما المجموعة الثانية فتتضمن المقالات التي نشرها الأفغاني باللغة الفرنسية، أو بالأحرى التي نشرت باسمه في هذه اللغة، وكانت موجهة إلى غير المسلمين لذلك تضمنت آراء غير معهودة. وهي: أ - ثلاث مقالات حول المهدي صدرت في الصحيفة الفرنسية "الانترسنجان" 1883. ب - الرد الكامل للأفغاني على محاضرة لرينان 1883. ج - رسالة وجهها الأفغاني إلى القنصل البريطاني في تركيا 1895؟. وإذا كانت هذه الوثائق تلقي أضواء جديدة ومثيرة على حياة الأفغاني وأفكاره، فإن المشروع الجماعي الذي يطرحه الدكتور محمد الحداد للبحث في شخصية الأفغاني يعتبر ركيزة هذا الكتاب الذي بين أيدينا. وما الوثائق في هذه الحالة إلا بعض المساهمة في مثل هذا المشروع الحيوي القادر أخيراً على تقديم اجابات شافية على بعض التساؤلات التي عرضناها اعلاه. ويذكر المؤلف ان هناك ثلاث مدارس تناولت الأفغاني خلال الفترة الماضية: المدرسة العربية والمدرسة الفارسية والمدرسة الاستشراقية. وفي حين كان للمدرسة العربية شرف الريادة، إلا أنها تراجعت أمام المدرستين الآخريين اللتين قدمتا اسهامات مهمة وجادة حول الأفغاني، لكن معظمها ما زال مجهولاً في العالم العربي. وعناصر المشروع الذي يقترحه الحداد تتمثل في التالي: أولاً - يتضح من خلال الوضع الحالي للدراسات حول الأفغاني أن الوثائق المتصلة به موزعة على عدد كبير من البلدان ومكتوبة بعدد كبير من اللغات... لذلك لا بد من تشكيل فريق بحث متعدد الجنسيات واللغات يتولى التنسيق في دراسة هذه الوثائق ومواصلة البحث عن غيرها. ثانياً - إصدار الوثائق المتعلقة بالأفغاني وهي على نوعين: وثائق الأفغاني أي كتاباته ووثائق حوله. ثالثاً - نظراً إلى ما تشهده المكتبة العربية من تأخر في هذا المجال، فهناك ضرورة للمسارعة في تعريب أهم الدراسات المتوافرة بالفارسية وباللغات الأخرى تركية وفرنسية وانكليزية. رابعاً - تتميز الدراسات الاستشراقية بنقطة ضعف أساسية هي قلة اهتمامها بالسيرة الفكرية للأفغاني. لذلك لا بد من الحث مستقبلاً على مقاربة مزدوجة... بأن يتم الإقرار بالفارق بين السيرة الشخصية والسيرة الفكرية. خامساً - لا بد من تطعيم المشروع بدراسات مكملة تتناول مواضيع محددة مثل دراسة فكرة بعض تلامذة الأفغاني وبصفة خاصة محمد عبده، وكذلك دراسة التيارات الفكرية الفارسية التي قد تكون أثرت قليلاً أو كثيراً في فكر جمال الدين الأفغاني... وهكذا. ويقدم الحداد نموذجين في هذا السياق، إذ يناقش مسألة نسبت بعض الكتابات إليه، ومسألة اتهامات الالحاد التي وجهت إليه قديماً وحديثاً. * "الأفغاني صفحات مجهولة من حياته - دراسات ووثائق"، محمد الحداد. دار النبوغ - بيروت 1997.