تفقد الرواية الحديثة بريقها ان اقتصرنا على نواتها الحكائية وإنْ جردناها من جزئياتها وتفاصيلها. وحيث ان هذه العادة تشكلت بفعل استراتيجية القراءة والذاكرة التي تميل الى الاختزال والإسقاط، والى الظن ان الدلالة أو الدلالات الروائية تستقر في نهاية المطاف في هذا الأصل أو تلك النواة، فإن هذه الاستراتيجية الاختزالية هي تعامل سلبي مع الرواية. الرواية التي ما تزال ترسي بناءها الجمالي وفاعليتها على ما يتجاوز هذه النواة، وتنتحل أشكالاً سردية وتعبيرية متعددة. وتتخذ اتجاهات ملتبسة ومُلغزة. وتكسر الحدود بين المعيش والمتخيل، وتهزّ تراتبية الأمكنة والأزمنة. ولو حاولنا ان نقرأ رواية عادل بشتاوي الجديدة "بقايا الوشم"* في ضوء المغريات التي تقدمها النواة الحكائية، لوجدناها حكاية رجل وامرأة شاءت الأقدار ان يلتقيا بعد ربع قرن من الفراق. فيجدد ابنه وابنتها قصة حب تماثل قصتهما السابقة. يبد ان تناول الرواية من هذه الزاوية الضيقة من دون الإطلالة على طبيعة الكتابة السردية لدى الكاتب، وطريقة بنائه وتكوينه لمتنه ولأشكال التخييل الروائي، وقدرته على خلق ايقاع الرواية الداخلي المتفرّد، وابتكار سياقاتها وحواراتها الواقعية وتداعياتها الاستيهامية. هذا التناول لن يؤدي بنظرته المحدودة إلا الى تعرية الرواية من مقوماتها الأساسية ومن كثافتها وتمايزها. "بقايا الوشم" لعادل بشتاوي لا تنغلق على هذه الحكاية العادية، إنما تنفتح عبر بنية روائية متعددة الروافد والحواشي على كثير من الأسئلة والقضايا الحضارية، في مقدمها الإشكالية النسائية التي عاينها من قبلُ روائيون عرب فوضعوا العلاقة الملتبسة بين الشاب العربي والفتاة الأوروبية تحت مجهرهم. بيد ان "بقايا الوشم" تتمثّل هذه الإشكالية من زاوية أخرى، فتتناول العلاقة بين الجيل الثاني أو الثالث من العرب المهاجرين المتشبّع بالحضارة الغربية وسلوكياتها وتقنياتها من طرف. والجيل النسائي العربي المثقف والمتعلم الذي ما فتىء يرزح في بلادنا تحت وطأة التقاليد من طرف آخر. اختار القاص مدينة لندن، ولعل في هذا الخيار بعض ما يمت الى تجربة شخصية، لتكون محطة عبور لامرأتين: عروب ووالدتها، المنتقلتان الى الولاياتالمتحدة الأميركية لحضور حفلة زفاف شقيق الوالدة. لكنّ لندن تحوّلت بمحض الصدفة، أو بمشيئة الروائي، الى حالة اختبار حضارية قاسية ومضنية، فبدلت نفسية المرأتين، كما قلبت حياة الرجلين هشام حبيب الأم السابق، وابنه وسام الحبيب اللاحق لعروب، خلال ثلاثة أو أربعة أيام فحسب أمضيتاها في منزل الرجلين مضطرتين بعد أن سُرق منهما جوازا سفريهما في مكان عام للتسوق. خلال هذا الزمن القصير جداً من المساكنة الموقتة نسج بشتاوي عقدة من العلاقات المتشابكة بين أبطاله، وحوّل، عبر عملية تكثيف زمني، الأيام المعدودة الى زمن حضاري استغرق في روايته أكثر من ثلاثمئة صفحة، فقلبَ أمزجة وأفكاراً ومصائر. ومن دون مراعاة هذا المنحى التكثيفي الترميزي يتحول ما يرويه القاص في هذه الصفحات العديدة الى أطناب لا جدوى منه. وإلى تحشية لا طائل تحتها. وبشتاوي في حقيقة الأمر يستهويه هذا الالتفاف على النفس، وهذا التوغل العميق في دهليزية العواطف، واستنباش المكنون والدفين. أفضت التجربة في لندن بالمرأتين والرجلين الى اجتياز مسافة حضارية هائلة اختصرتها بضعة الأيام هذه. فطرأت تحولات في العواطف والأفكار والعلائق بين الطرفين. حرّكت عروب وأمها في البيت الحرارة الإنسانية والعاطفة الشرقية التي حملتاها من بلادهما. بعد ان جمّدت البيت ميكانيكية الحياة الغربية. وفي المقابل أيقظهما الرجلان من غفوتهما وأخرجاهما من شرنقتهما ودفعاهما الى الانصات الى دقات القلب ونداء الذات، وأضحت الرحلة العابرة بين البلدين والمطارين مغامرة في الزمان، وتجربة حضارية بقدر ما هي تجربة ذاتية. وكشفت عمق الهوة بين المرأة الشرقية والمرأة الغربية، واختلاف موقعهما ومآلهما. ودلّ الحوار بين آرلين عشيقة وسام وعروب التي أدعت أمامها أنها حامل منه، على طريقتين متمايزتين في التفكير والممارسة، إحداهما تمثلها عروب، أو بالأحرى المرأة العربية التي تحاول البطلة أن تتماهى بها، وتقوم على فكرة امتلاك الرجل من خلال الانجاب والتعلق بالبيت والأولاد. أما الثانية فمبنية على العلاقة الحرة والمتكافئة بين الرجل والمرأة. وضع القاص المرأتين وجهاً لوجه وهما تتنازعان رجلاً واحداً. فبدا ان عروباً وإن انتصرت ظاهرياً فهي ترسف بأغلال غير مرئية. وقصتها تماثل قصة أمها ومعاناتها وقهرها على رغم ثقافة الأم والبنت، وكأنما هما حلقتان ضعيفتان من سلسلة واحدة تشدها الذاكرة القمعية. فترى الأم في عروب التي يعذّبها أبوها صورتها القديمة وهي تجأر بالشكوى "تنظر الى الشمال فترى نفسها. تسمعها تبكي بكاء مخنوقاً حتى لا يسمعها أبوها فتسمع فيها نفسها". وعروب التي يداهمها على درج البيت في لندن إحساس مفاجىء باللذة، وتساورها نوازع إيروسية مكبوتة، تُحجم عن إظهار ما تشعر به، أو التعبير عنه حتى ولو بالإشارة أو الحركة خوفاً من الفضيحة والشين. بينما آرلين حرة طليقة تعامل الرجل معاملة الند للند، ولا تخجل في اشهار رغباتها وصبواتها أمام الملأ. وتكشف وقفة القاص المسترسلة عند عروب وهي تلجم رغبتها وتتقوقع على ذاتها أمام وسام أعمق طبقات الكبت المترسّب في نفس المرأة العربية والخوف من المحظور. بيد ان الرحلة وما لابسها من أوضاع وأطوار شكّلت لعروب مخاضاً فكرياً استدركت في ضوئه واقع أنوثتها المحبطة، فسعت بعد الإياب الى بلدها الى تحقيق ذاتها والتحرر من استلابها الأنثوي المزمن، ولو على جمرة العذاب الذي سامه لها أب غيور ارتاب من عذريتها ومن عفة زوجته فعبث بأغراضهما وملابسهما "فتش وفتشت معه هواجسه ومخاوفه وعقله وقلبه وغيرته". وآثر البقاء على ارتيابه على رغم كل القرائن الداحضة. والغيرة كما يصفها وسام مثل الفيروس، لا تبدأ في التكاثر إلا في المحيط الملائم، وليس أفضل من محيطنا الشرقي الأبوي لنمو هذا الفيروس وتكاثره. وكما طرأ التحول على عروب طرأ أيضاً على وسام الذي عاش في الغرب وتعلم في أرقى الجامعات وتخصص في أحدث اختصاصات العصر "ميكانيكية الإخراج الرقمي" فعثر في عروب على ضالته، وبعد سوء تفاهم مرجعه اختلاف النظرتين الحضارتين المختلفتين لديما، غامر بنفسه لينقذها من براثن الأبوة المتزمتة. ووجه الطرافة في الرواية أنها تنيط الفضل في بقاء التواصل بين الحبيبين البعيدين واستنقاذ الفتاة باستخدامهما معاً جهاز الكومبيوتر أو الأنترنت. فبواسطته تبادلا الرسائل والآهات. وأرسيا استراتيجية للعواطف وبرمجتها. وحلّ الكومبيوتر محل المخبرين والمفتشين البريطانيين، ودلّ بمعادلة رياضية أجراها وسام على مكان جوازي السفر الضائعين. وفي وسعنا ان نفترض ان احتفاء القاص بالكومبيوتر، ذو علاقة بقراءته الجديدة التي ترى أن هذه التقنية الحديثة قادرة على تحرير الإنسانية وخدمة البشر، وخلق جيل عالمي جديد "يتكوّن فوق الحضارات المعروفة ويمدّ جسوراً لم تكن ممدودة في أي وقت من الماضي". وعلى رأس هذا الجيل الفتاة العربية التي تستطيع عبر العقلية الجديدة أن تخطط لبناء شخصيتها متحررة من العبودية والاستضعاف. وإن صحّ ما زعمناه فلا ندري كيف يمكن للرموز الرياضية أن تحل محل الرموز الميتولوجية، وللخطاب العلمي ان يُقصي الخطاب الإيديولوجي بسهولة من عقولنا، من دون ان يزعزع قناعاتنا ومسلماتنا. ولبرامج الحاسوب ان تسيطر على بديهيات الأعراف والتقاليد. في سياق روائي يحافظ على تعاقب زمني ظاهري لكنه يقوم على تنوع المستويات السردية، وعلى حركة انسيابية، متوترة أحياناً ومفتتنة بالكلام الذي لا ينقطع حواراً أو وصفاً أو مناجاة، يتواشج الحدث اليقيني بالاحتمالي، والواقعي بالمتخيل، ويتداخل صوت الراوي بصوت الأبطال، ويستدمج القاص قصة بطلته بقصة شهرزاد فيضع إصبع القارىء على الدلالة الأعمق لظلم المرأة العربية والشرقية. الدلالة التاريخية والأسطورية الكامنة في تلافيف اللاوعي الذكوري الجماعي الذي تمثّله هذه القصة التراثية التي ما زال الروائيون يلقون عليها اسئلتهم المتجددة والمتكررة. وما يضفي على "بقايا الوشم" فرادتها وخصوصيتها ان الرواية لا تقتصر على وقائع وأحداث مألوفة فحسب، وإنما تنفتح على حدوس وتداعيات وتخيلات ميتولوجية وأشعار، وعلى حركية الأعماق، فتُرَدُّ الرواية الى دلالاتها غير المباشرة، والى أسئلة الوجود حول الحياة والموت والقدر التي تتردد في ذهن بطلها هشام المفجوع بوفاة زوجته الإنكليزية. ومن ميزات الرواية أنها ترصد أبطالها رصداً دقيقاً في صمتهم وكلامهم وحركاتهم. وتتبّع ما يساورهم من انفعالات ومخاوف عميقة وغامضة وإحساس بالذنب والقلق. وتقبض على ارتعاشات العاطفة ودبيب اللذة وخدرها في النفس والجسد. حتى لكأنها بقوامها وأصواتها ولغاتها موشور يعكس طيف العالم والوجود، بقدر ما تنطوي على إشكاليتها الأساسية التي يتحرك عليها محورها الروائي. إشكالية المرأة واستتباعاتها: الشرق والغرب، التكنولوجية والتخلف، وكل الثنائيات وجدلية الأضداد التي لا تتوقف في ذهن الكاتب العربي. * صدرت عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" - بيروت - طبعة أولى 1998 - 555 صفحة.