قال مستشار البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال افريقيا الدكتور عبدالله بوحبيب في محاضرة ألقاها أمس في مقر جامعة وستمنستر في العاصمة البريطانية لندن ان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا حسب تقسيمات البنك الدولي، تمتد من المملكة المغربية غرباً الى ايران شرقاً، وان المنطقة شديدة التنوع اقتصادياً، وتضم بلدان الخليج الغنية بالنفط وبلدانا تعاني من شحة الموارد بالنسبة لعدد سكانها، مثل مصر والمملكة المغربية واليمن، مضيفاً ان متوسطات دخل الفرد في البلدان التي ينشط فيها البنك تتفاوت من أقل من 300 دولار سنوياً في اليمن الى ما يقدر بنحو 2700 دولار في لبنان. وشرح بوحبيب ان الحظوظ الاقتصادية للمنطقة ككل تأثرت تأثراً شديداً على مدى ربع القرن الماضي بالتغيرات التي طرأت على اسعار النفط، وان الزيادات الكبيرة في تلك الأسعار وفرت خلال السبعينات الأساس اللازم لفترة من النمو السريع في البلدان الغنية وغير الغنية بالنفط على حد سواء، اذ استفادت المجموعة الثانية من تحويلات مواطنيها العاملين في منطقة الخليج، ومن المساندة المالية الكبيرة التي قدمتها بلدان المنطقة المصدرة للنفط. ولكن انخفاض اسعار النفط في الثمانينات، مقترناً بأنظمة سياسية بطيئة في التكيف مع الأوضاع المتغيرة في كثير من البلدان، أدى الى أزمة في النمو في أرجاء المنطقة كافة. وكان اجمالي الناتج المحلي على مستوى المنطقة نما خلال الثمانينات بمعدل لم يتجاوز في المتوسط 0.2 في المئة سنوياً. وتحسن معدل النمو الاقتصادي تحسناً مهماً في النصف الأول من التسعينات، اذ بلغ في المتوسط 2.3 في المئة سنوياً، مقابل معدل نمو سكاني بلغ 2.7 في المئة على مستوى المنطقة، واستمر متوسط دخل الفرد في الانخفاض. وعلى رغم الصعوبات التي واجهتها بلدان المنطقة في السنوات الأخيرة، قال بوحبيب ان امامها فرصة لدخول القرن الحادي والعشرين بامكانات جيدة لتحقيق زيادات كبيرة في الأزدهار الوطني والرفاهية الفردية لمواطنيها، لأن آفاق النمو الاقتصادي العالمي، مدفوعة بالقوى الديناميكية المتمثلة في تحرير التجارة وعولمة الانتاج وتقديم الخدمات، هي آفاق مشرقة - وتتيح فرصاً لم يسبق لها مثيل للبلدان التي تعقد العزم على بذل جهود حازمة لاغتنامها. وأضاف ان "البلدان السباقة الى الاصلاح"، مثل المغرب وتونس والأردن، والبلدان الأحدث عهداً بالاصلاح، مثل الجزائر ومصر واليمن، تنفذ أو شرعت في تنفيذ برامج جدية لتثبيت الاقتصاد الكلي واعادة الهيكلة، وان في حالات عدة، بدأت هذه البرامج تعطي ثماراً لجهة زيادة سرعة النمو في الدخول والصادرات والوظائف. وفي الوقت ذاته، يرى البنك الدولي انه لو كللت عملية السلام في الشرق الأوسط بالنجاح، فإنها ستتيح لبلدان الشرق الأوسط في المنطقة فرصة لاعادة تركيز أولوياتها بالابتعاد عن المواجهات السياسية والعسكرية والتوجه نحو التنمية الاقتصادية، مشيراً الى امكان مساهمة العملية السلمية في استعادة تدفقات الاستثمارات الخاصة التي تمس الحاجة اليها، مع حدوث انحسار تدريجي في تصورات المخاطر السياسية في المنطقة. التحديات الانمائية وقال مستشار البنك الدولي ان بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تواجه ايضاً تحديات انمائية كبيرة على رغم ان الاحتمالات المتوافرة أمام المنطقة لجني منافع عولمة الاقتصاد عظيمة، مشيراً الى ان المنطقة تعد اليوم أقل اندماجاً في الاقتصاد العالمي مما كانت عليه قبل 30 سنة. وعلى رغم ان الفقر الناجم عن الدخول منخفض في المنطقة اذا قورنت بمعظم المناطق النامية، لكن انعدام الفرص لا يزال حاداً. ولا تزال البطالة السافرة، التي تبلغ نحو 15 في المئة، عالية بدرجة غير مقبولة، وتعتبر خطيرة في صورة خاصة بين الباحثين عن عمل لأول مرة. وعلى رغم الاستثمارات الكبيرة التي نفذت في الماضي في البنية الاساسية، والتعليم، والرعاية الصحية، فإن مظاهر النقص شديدة كماً ونوعاً. ولا تزال بلدان عدة تجتاز عملية التخلص من تركة نموذج تنمية التخطيط المركزي الذي ساد في الماضي والذي اعطى أفضلية للاستثمار العام والمؤسسات المملوكة للدولة على حساب مبادرات وديناميكية القطاع الخاص. وأخيراً، فإن ضغوط النمو السكاني والتحضرالسريع، مقترنة بالسياسات غير الملائمة التي اتبعت في الماضي، تخلق مشاكل متزايدة الحدة وباهظة الكلفة تتمثل في التلوث البيئي واستنزاف وتدهور الموارد الطبيعية. برنامج عمل لتحقيق الأزدهار ولفت الدكتور بوحبيب الى ان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تقف الآن عند مفترق طرق. والى ان الاتجاهات العالمية نحو اضفاء مرونة جديدة على انظمة الانتاج، وانشاء شبكات مالية، وزيادة حجم التجارة الدولية تعني ان الموقع الجغرافي أو حجم الثروات الطبيعية لم يعد سبباً لتقرير المصير الاقتصادي. وأضاف ان بوسع بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ان تختار بين تحقيق الازدهار أو عدم تحقيقه، وان بوسعها ان تتكيف مع النمو البطئ، وتدهور مستويات المعيشة، أو ان تنتهج برنامج عمل يستهدف تحقيق الإزدهار بالاستناد الى ضمان تحقيق نمو سريع يتقاسم الجميع ثماره ويكون قابلاً للاستمرار بيئياً. ويتوقف النمو السريع وفق البنك الدولي على ثلاثة عوامل بالغة الأهمية: أولاً المحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي الذي تحققه في صورة متزايدة معظم بلدان المنطقة، من أجل زيادة ثقة قطاع الاعمال وتشجيع الاستثمار الخاص، وثانياً، تعميق تحرير التجارة، الذي تسعى اليه بنشاط حالياً بلدان عدة في المنطقة، من أجل إسراع خطى الاندماج في الاقتصاد العالمي وتشجيع نمو الصادرات غير النفطية القادرة على المنافسة. وثالثاً، تنفيذ اصلاحات في السياسات الاقتصادية الداخلية على جبهة عريضة بهدف منح الأولوية لتنمية القطاع الخاص باعتباره محرك النمو - ابتداء من تخصيص المؤسسات المملوكة للدولة واصلاح أجهزة الخدمة المدنية، مروراً بتحرير القطاعات المالية، وانتهاء بتبسيط اللوائح المنظمة للنشاط الاقتصادي وأسواق العمل مع الابقاء على الاجراءات الوقائية والمعايير الضرورية. ولفت بوحبيب الى ان مجرد تحقيق نمو أسرع ليس كافياً، وانه من الضروري أيضاً ضمان اقتسام ثمار النمو على نطاق واسع، لتمتد منافعه الى جميع الناس، وليس القلة المتميزة المحظوظة فقط. ويعني هذا بذل جهود جديدة لتحسين الفرص المتاحة للمواطنين العاديين للعثور على وظائف والاحتفاظ بها - ما يعني بدوره تحسين نوعية التعليم الاساسي والرعاية الصحية الاساسية، وتوفير قنوات جديدة لتحسين المهارات واعادة التدريب، وبذل جهود خاصة لاشراك عدد أكبر من النساء في الاقتصاد، نظراً لأنهن أقل موارد المنطقة استخداماً. وفي الوقت نفسه، ولأن برامج تثبيت الاقتصاد واصلاحه يمكن ان تكون لها تكاليف اجتماعية موقتة قبل ان تظهر منافعها على المدى الأطول، سيحتاج الأمر الى ايجاد شبكات أمان اجتماعي أكثر فعالية وأفضل توجيهاً. وأخيراً، قال بوحبيب ان النمو يجب ان يكون قابلاً للاستمرار، وقدر ان التدهور البيئي والاستخدام غير السليم للموارد الطبيعية الشحيحة كالمياه والأراضي الصالحة للزراعة كلفا المنطقة فقدان نسبة تصل الى 3 في المئة من اجمالي ناتجها المحلي سنوياً، وان هذا عبء لا يمكن ان تستمر آفاق التنمية في تحمله. وأضاف ان الحل يكمن في اتباع سياسات سليمة من الناحية البيئية تؤدي الى وقف التلوث، وتشجيع ادارة الموارد بكفاءة - على سبيل المثال عن طريق اتباع مبدأ "الملوث يدفع"، ومن طريق تخفيض أو إلغاء الدعم الذي يشجع على الاستخدام غير الضروري للطاقة والمياه. وبإمكان برنامج اصلاح هذه المبادئ وفق البنك الدولي ان يحسن بدرجة كبيرة آفاق ايجاد مستقبل أفضل لمواطني بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وبإمكانه بسهولة ان يوفر الأساس اللازم لتحقيق نمو في متوسط دخل الفرد قدره 2.5 في المئة سنوياً، مما يعني بدوره القضاء في صورة شبه كاملة على الفقر المدقع بحلول سنة 2010. لكن بوحبيب قال ان تنفيذ هذا البرنامج وجني ثماره سيتطلب التزاماً قوياً ومستمراً بالاصلاح من جانب حكومات بلدان المنطقة. واضاف "لا يمكن ان نتوقع لهذه البلدان ان تحقق التغيير اللازم بمفردها، فهي تحتاج الى مساندة من المجتمع الدولي، بمؤسساته العامة والخاصة، الثنائية والمتعددة الأطراف، التي تعمل مع حكومات بلدان المنطقة وقطاع الاعمال الخاص فيها على تشجيع تحقيق النمو السريع القابل للاستمرار والذي يتقاسمه الجميع". الدور المتغير للبنك الدولي للبنك الدولي تاريخ طويل في الشراكات الانتاجية مع مختلف بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. فقد بلغ المجموع الكلي المتراكم للموارد المالية التي قدمت الى 11 بلداً مقترضاً في المنطقة، من بينها بلد واحد "تخرج" من الحاجة الى ذلك، وهو عمان، وأحدث اضافة الى القائمة وهي الضفة الغربية وقطاع غزة نحو 29 بليون دولار الجدول 1. وقدم أكثر من نصف هذا المجموع الكلي على مدى السنوات العشر الماضية الجدول 2. وقال بوحبيب ان السنوات العشر شهدت تغيرات في أولويات الإقراض استهدفت تلبية الحاجات المتغيرة للبلدان المعنية. اذ وجه نحو نصف الإقراض فقط في تلك السنوات العشر لمجالي التركيز التقليديين للبنك وهما: الزراعة والبنية الأساسية. ولكن مجالات التركيز الجديدة أو المتوسعة شملت تقديم مساندة لاصلاح ادارة القطاع العام وسياساته "إقراض لقطاعات متعددة" ولتنمية القطاعات المالية التي تعتبر ضرورية للنمو الذي يتصدره القطاع الخاص، وللبيئة ولتنمية الموارد البشرية التعليم، والرعاية الصحية، والرفاهية الاجتماعية التي تحقق أهداف العدالة والكفاءة معاً وتتيح فرصاً لأولئك الذين لم يتمتعوا من قبل بالقوة التي تضفيها عليهم وتوفر قاعدة للمهارات اللازمة لقوة العمل القادرة على مواجهة المنافسة الدولية، مع حماية المحرومين ايضاً. وأضاف بو حبيب ان البنك وسع خدماته ليتجاوز مجرد الإقراض المباشر في مجالين مهمين، اذ ان البنك شرع أولاً في مساندة تدفقات الاستثمارات الخاصة الى المنطقة عن طريق الاستخدام النشط للضمانات التي تخفض في آن معاً تصورات المستثمرين للمخاطر التي يحتمل ان يتعرضوا لها وكذلك تكاليف الاقترا ض التي تتحملها البلدان المتلقية لهذه الاستثمارات. مشيراً الى ان للضمانات أهمية خاصة في تشجيع تدفقات الموارد المائية الخاصة الجديدة اللازمة لتنمية مرافق وخدمات البنية الاساسية. ثانياً، وسع البنك نطاق عمله التحليلي ومشورته المتعلقة بالسياسات لمساندة استراتيجيات التنمية في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. بالاضافة الى الدراسات الاقتصادية التقليدية، يركز هذا العمل الآن على مجالات بالغة الاهمية مثل تنمية القطاع الخاص، ومكافحة الفقر، وحماية البيئة. وأوضح مستشار البنك الدولي ان البنك ينفذ برنامجاً نشطاً للتعاون الفني مع دول الخليج العربية التي لا يؤهلها مستوى دخلها للاقتراض من البنك لتمويل المشاريع الاستثمارية. ويتألف البرنامج من مساعدات فنية تسترد معظم تكاليفها وتركز على تقاسم البنك مع هذه الدول أفضل اساليب العمل فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية الكلية والقطاعية، استناداً الى خبرة البنك الانمائية في أرجاء العالم كافة. كما يمثل البرنامج سابقة في تقديم خدمات غير اقراضية الى بلدان في مناطق اخرى من العالم تتيح لها جهودها الانمائية الناجحة ان "تتحرج" من وضع الاقتراض من البنك. كذلك يضع البنك تركيزاً متزايداً على دوره كراع ومسهل لشبكة متوسطة من الشركات المتعددة الأطراف بين بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا والبلدان والجهات الخارجية المساندة لها، وفيما بين بلدان المنطقة نفسها في المجالات الرئيسية ذات الاهتمام المشترك. وتتراوح هذه الشركات بين برنامج المساعدة الفنية لبيئة البحر الأبيض المتوسط، ومجموعات العمل المتعددة الأطراف المختصة بالتنمية الاقتصادية الاقليمية والمياه والبيئة التي شكلت تحت مظلة عملية السلام في الشرق الأوسط، وبين الشراكة بين البلدان والجهات المانحة التي نظمت لتعبئة الموارد المالية للضفة الغربية وقطاع غزة، ومبادرة مكافحة التصحر في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. كما ساند البنك بعزم اقتراح الاتحاد الأوروبي اقامة شراكة ومنطقة اقتصادية بين أوروبا وبلدان منطقة البحر الأبيض المتوسط. وأخيراً، قال بوحبيب ان البنك يعمل حالياً على تحسين قدرته على تلبية حاجات بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا عن طريق ادخال تغييرات على هيكله التنظيمي اذ وسع نطاق وجوده المحلي في المنطقة في السنوات الأخيرة بانشاء مكاتب جديدة في البلدان الاعضاء، ونقل مزيد من المسؤوليات الى هذه المكاتب. وشرح ان للبنك الآن بعثات مقيمة في مصر والسعودية، والضفة الغربية وقطاع غزة واليمن مضيفاً انه في الوقت نفسه تم تجميع الموظفين العاملين في مقر البنك لبلدان المنطقة في اطار وحدات ادارية جديدة تتمتع بقدر اكبر من المرونة وذات تركيز أشد على مستوى البلدان والقطاعات. واعتبر بوحبيب ان هذه خطوة كبيرة في جهد أوسع نطاقاً لتنظيم انشطة البنك واستخدام مزيج أدواته وخدماته بوسائل تعظم فعاليته الانمائية وقدرته على تلبية حاجات البلدان المتعاملة معه، لافتاً الى ان البنك لم يستثن نفسه من تحدي التغيير، وهو يقيم أفضل الطرق التي يمكن ان يساند بها شركاءه في منطقة الشرق الأوسط وشمال فريقيا وهم يتقربون من دخول القرن الحادي والعشرين.