في كل مرة يدرج فيها كاتب ما، ليس بالضرورة من اصل فرنسي، في سلسلة "لابلياد" التابعة لمنشورات غاليمار، وذات النفحة الاسطورية الاغريقية، يتحدث النقاد عن دخوله رحاب "البانتيون"، الذي يضم اعلام الفكر والسياسة الفرنسيين امثال جان مُولان، فيكتور هيغو، أندريه مالرو إلخ... ويعتبر هنري ميشو آخر الكتّاب الذي احتضنتهم هذه السلسلة بعد كوكبة تضم بودلير، رامبو، فيرلين، لوتريامون، مالارمه، جيرار دونيرفال، رنيه شار إلخ... اذ صدر الجزء الاول، ضمن ثلاثية، تحت اشراف رايمون بيلور وإيسي تران في 1584 صفحة. ثمة من اعتبر ادراج لوي فردينان سيلين وهنري ميشو، وهما من الكتّاب المشاكسين الذين فجّروا الفرنسية من الداخل، في "لابلياد" علامة على تحرر هذه السلسلة وعلى ديموقراطيتها وهي تنتمي الى احدى اعرق دور النشر الفرنسية. طرف ثان يرى ان دخوله في السلسلة هو بمثابة قصّ لمخالب شاعر استعصى احتضانه. على اي حال يبقى الحدث ذا اهمية بالغة لأنه يُلقي المزيد من الضوء على مُبدع، اختزل البعض صوته اما في هيئة "شاعر مبهم" او في مظهر مبدع حشاش مدمن على الميسْكالين، وهو مخدّر يثير هلوسات لدى متعاطيه. تغطي نصوص هذا الجزء الاول الحقبة الممتدة ما بين 1922 - 1945. اضافة الى بعض النصوص المعروفة مثل "إكوادور" 1929، "متوحش في آسيا" 1933، "حراك الليل" 1935، "أشجار المدارات"، يحتوي الجزء نصوصاً اولى، تركها ميشو هامشاً لأنها لم تحظ برضاه، مثل "حالة جنون دائرية" 1922 وهو نص يحمل قبسات لوتريامون مع طموح الى فسخ الهوية، واقتلاع شجرة الانساب. في نص "خرافة الاصول" 1923 يميل ميشو بطريقة متشظية، الى كتابة تاريخ الخلق والخليقة، لاغياً فكرة الحتمية وسلسلة الاصول. وبدل الاسطورة اليونانية احدى نقاط اتكاء الثقافة الغربية، يقترح ميشو ميثولوجية اقرب الى غرائبية الميثولوجيا الافريقية او سرد الليالي. يتضمن هذا الجزء رسومات ولوحات ملوّنة ضمّنها ميشو رسوماً لقصائده مثل "رسومات" 1939، "اشجار المدارات" 1942. في تقديمه المطوّل، يشير رايمون بيلور الى العلاقة المعقّدة التي يقيمها نتاج ميشو بين الوحدة والتعدد، متنكراً مبدأ كليانية "الاعمال الكاملة"، مفضلاً الشذرات كمحصّلة للتجريب والترحال الدائم، اللذين اعتمدهما ميشو نهجاً وسبيلاً. ويعقد رايمون بيلور قرابة، قد تبدو للبعض تعسفية بين تصور ميشو لوظيفة الشعر ومهته وطروحات جيل دولوز وفيليكس غاتاري الفلسفية المتكئة على الممارسة الانزياحية لسلطة اللوغوس. بيد ان القرابة تقوم على مستوى التجريب المطلق الذي حرّر المتخيل وبنيان الكتابة من قيود المألوف والمتعارف. وقد انجرّ وراء هذا التحديث الراديكالي اكثر من مبدع ومفكّر. نكتشف اذاً ملامح جديدة لشاعر جاهد كي يبقى طي الكتمان، الى ان طرح أندريه جيد سنة 1941، في كرّاس من خمسين صفحة السؤال السهل - الممتنع: "هل قرأتم ميشو؟". سؤال يتضمن التعجيز بقدر ما هو دعوة الى اكتشاف شاعر ذي باع قوي، "يهمّه كمال القصيدة اكثر من مجده الشخصي، شاعر اوحد..." على حد تعبير أندريه جيد. وقد أخرج سؤال هذا الاخير نسبياً ميشو من السر الى العلن. بيد انه بقي وفياً لعزلته ووحشته. ولربما تأتّى هذا السلوك في وسطه العائلي البورجوازي المحافظ الذي كان ينظر اليه محامياً او مهندساً، عليه الحفاظ على ميراث العائلة وعقليتها، فيما كان هو يعلم أشياء اخرى. لمّا كان ميشو طفلاً، كان واهن الخرقة الجسمانية. تثير الروائح بكل اصنافها غثيانه. كان في وضع المضرب عن الطعام الذي يستسلم لمشيئة الموت البطيء. وبقي على هذا الوضع الى غاية العشرين. وبما ان الحقبة كانت تميل الى المغامرة، فقد ابحر ذات يوم كملاّح على متن باخرة جابت به مدة سنة كاملة، العديد من البلدان. وكان لهذه الرحلة اثر استشفائي حرّره من هلوساته وانقباضاته المزمنة، وصالحه مع المعيش المتحوّل. "في افق وعي، لا يوجد ولن يوجد مكان لأي ثابت" يقول هنري ميشو. مثلما كان للكونت لوتريامون اثر صاعق على فعل الكتابة لدى هنري ميشو، كان اكتشافه للرسامين، بول كْلي، إرنست، شيريكو، بمثابة فتحٍ مبين على مراس الرسم الذي يعتبر المختبر الذي جرّب فيه بشاعته القصوى، وجنونه الحميمي، والذي تترجمه بقع ولطخات تتذبذب في احشائها او على هوامشها اطياف مقطوعة الاوصال. "تنبثق الحياة من الاسود القاتم..." يقول ميشو. كتب ميشو ورسم القسم الاكبر من نتاجه تحت مفعول مادة الميسْكالين. ومحصلة هذه المادة تختلف كثيراً عن محصلة الحشيش والأفيون اللذين تعاطاهما اكثر من كاتب ومبدع. فيما تنبلج الرؤيا تحت مفعول الحشيش مثلاً على دهاليز وأقبية، قد تكون مداخل لمآتم او ابتهاجات، تحد الميسْكالين من كثافة المخيّل. "الميسْكالين تخصي الصرة، تنتزع عنها كل إيروسيّة، لتجعل منها صورة خالصة مائة في المئة.. الميسْكالين عدة الشعر، والتأمل..." يقول ميشو. تعاطي ميشو للميسْكالين لم يكن نزوة عبرة، بقدر ما كان موقفاً فلسفياً، ناتجاً عن تعلقه بالديانة الهندية، "الديانة الوحيدة التي أولت اهتماماً حقيقياً للمخدرات" يقول هنري ميشو. وهذا ما يفسر انبهار ملايين الشباب الغربي بالهند. لكن السبب الرئيسي الذي يشدد عليه ميشو هو رغبة التوحد بعد امّحاء الاضداد. التوحد بالفراغ "الذي هو بلهجة وخلاص لا نهائي.. عالم بفورات تقوم على الشطح الدائم..". يقدم لنا هذا الجزء من "لابلياد" شاعراً عصيّاً على التصنيف. كان على كراهية دائمة للصحافة وللادب. انخرط ضد العقل في الزمن الوحشي، جاعلاً من القول الشعري ومن الرسم فردوسه المطلق. لكن هل قرأنا نحن العرب ميشو