واجهت محادثات اسلام آباد بين اطراف المعارضة الافغانية وحكومة طالبان، والتي جرت تحت رعاية الأممالمتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي، عقبات فعلية كادت ان تنسفها لولا حرص الباكستانيين بدفع اميركي، على دوامها واعتبار القليل الذي تمخض عنها نتائج ايجابية يجب البناء عليها. اما الحقيقة التي أشارت اليها تقارير صحافية عديدة، فرجحت انفجار دورة اخرى للحرب بين الاطراف المتنازعة على رغم الاتفاق على تشكيل لجنة الحوار. فهذه النتيجة لا تلغي ان اللقاءات والاجتماعات المتكررة طوال الأيام الخمسة في اسلام آباد لم تنجح لا في ازالة اجواء اللاثقة بين تلك الاطراف، ولا في منع الحشود المتقابلة والمعارك الجانبية، بما فيها تلك التي بين قوات الحليفين الرئيس المخلوع برهان الدين رباني ووزير دفاعه السابق مسعود احمد شاه. وربما جاز القول انه لا يمكن معالجة صراع معقد ومرير ومديد كالصراع الافغاني الذي تتداخل فيه امتدادات اقليمية عديدة، خلال أيام قليلة. ثم ان غياب الدور الاميركي الفاعل الذي كان بدأه المندوب الاميركي الدائم في مجلس الأمن بيل ريتشاردسون عند زيارته افغانستان في أول نيسان ابريل الماضي، عن محادثات اسلام آباد، كان له اثر بالغ في تراخي الحماسة لدى اطراف النزاع للتقدم بفاعلية نحو التفاهم. لكن مع كل ذلك تظل الاسباب الفعلية لمحدودية النتائج التي خرجت بها اجتماعات اسلام آباد مرتبطة بعاملين أساسيين: الأول - حضور الاطراف المتحاربة الى طاولة المحادثات دون امتلاك اي منها ارادة ذاتية فعلية في السلام في التوصل الى اتفاقية سياسية تنهي حال الحرب الداخلية وتفضي الى قيام حكومة موسعة ومتنوعة وموحدة، تبسط سيطرتها على كل المناطق الافغانية. والثاني - عدم التمهيد للاجتماع بتفاهم اقليمي مسبق، يؤكد على اهمية توفر ارادة اقليمية لبناء السلام في افغانستان. واللافت، هنا، ان الدور الايراني في الاجتماع لم يتجاوز حدود منظمة المؤتمر الاسلامي. بالنسبة الى المسألة الأولى لم يعد خافياً ان الاطراف الافغانية اصبحت تمتلك، كل منها في منطقة نفوذه، "دولة" غير قانونية قائمة بذاتها تديرها قلة قليلة من اصحاب المصالح وأمراء الحروب المنهمكين في تجارة التهريب المربحة عبر الحدود مع البلدان المجاورة، بما فيها تجارة الاحجار الكريمة والمخدرات والسكاير والاسلحة الخفيفة. ولأن السلام المفضي الى انشاء حكومة قانونية موحدة يعني كهدف أول له، ازالة تلك الدويلات التي لا نشاط لها غير الحرب والتجارة غير المشروعة، فالأكيد ان يحاول كل طرف ممارسة التباطؤ والتهرب من أي مشروع سلمي يتم طرحه من خلال اميركا او الأممالمتحدة او أية دولة اخرى، بغية الحفاظ على سلطته ودولته غير القانونية ومصالحه الذاتية. والحقيقة ان افغانستان ليست وحدها المثال على التعمد المحلي لتغييب ارادة السلام، بل هناك امثلة اخرى لا أقلها ما يجري في كردستان العراق. وفي صدد العامل الثاني يمكن الاشارة الى ان المشكلة الافغانية تعتبر في جوهرها شكلاً من اشكال الصراعات الاقليمية بين باكستان وإيران، يختلط فيها المذهبي بالديني، والسياسي بالعسكري، والتاريخي بالحاضر. وكل ذلك في حقيقته يعني انه اذا لم يجر الالتفات جدياً الى حل العقد المستعصية في العلاقات الباكستانية - الايرانية، فالارجح ان تواجه الوساطات الخيّرة الاخفاق والفشل في بقية جولاتها. وما يزيد من حدة تلك الحال ان امراء الحرب الأفغان استطاعوا خلال الاعوام الماضية مدّ تجارتهم ونشاطاتهم الاقتصادية غير المشروعة الى البلدان المجاورة بما فيها باكستان وإيران وطاجيكستان والمافيا الروسية. ما هيّأ وضعاً ملائماً لانخراط عشرات الضباط والمسؤولين المحليين ورجال المخابرات في تلك الدول في شبكات تهريب تستدعي مصلحتها دوام حالة الحرب في افغانستان. وهنا أيضاً توجد اوجه تشابه اخرى بين مثالي افغانستان وكردستان العراق على رغم الفوارق في التفصيلات. اذ فيما تحتفظ ايران في افغانستان بدورها بين الاحزاب الكردية العراقية، تقوم باكستان بلعب دور تركيا الجارة الشمالية للأكراد. كل ذلك لا ينفي طبعاً ابداء لاطراف الداخلية والمحلية الاستعداد الكاذب في خصوص التجاوب مع الوساطات الدولية والموافقة اللفظية على المقترحات الخاصة بعقد الاجتماعات المشتركة والحوار السياسي، ما دام الامر لا يتضمن التزاماً فعلياً باقامة سلام مناقض لمصالحها. لكن على صعيد آخر، يمكن التساؤل عن السبب وراء تجدد الاهتمام الاميركي بإقامة السلام في افغانستان بعد كل هذه السنوات العجاف من تجنب التورط في تعقيداتها؟ في الواقع، يمكن اعادة ذلك الى قناعة واشنطن بأن عوامل التدخل الاقليمي في المسألة الافغانية، وبالذات العاملين الرئيسيين الايرانيوالباكستاني، اصبحت تشهد تغيرات يمكن استثمارها في اتجاه المساعدة على نجاح الجهود الدولية المبذولة على طريق السلام الافغاني. فمن جهة باكستان، يمكن لمشاكلها الداخلية واتساع نطاق العنف والعنف المضاد الذي أخذ بالتفجر في أرجائها، ان يقنع قادتها بضرورة وضع حد لنقل صراعاتهم مع الدول المجاورة، وفي مقدمها ايران، الى الداخل الأفغاني، نظراً لانعكاسات تلك الحال سلباً على اوضاعها الداخلية. وكذلك الحال بالنسبة لتفاقم صراعاتها مع الهند من جهة، وتورطاتها في كشمير من جهة ثانية. اما من جهة ايران، فإن التحولات الطارئة على سياستها الخارجية والاقليمية، في ظل حكومة السيد محمد خاتمي، يمكن ان تقنع طهران بالكف عن التدخلات في الشؤون المجاورة، بل التناغم مع الجهود الدولية الرامية الى حل المشكلات المتفجرة، خصوصاً تلك التي تستطيع ايران المساعدة في حلها. وكانت الاخيرة أبدت مؤخراً مواقف مشابهة بالنسبة لحل النزاعات في كردستان العراق وجنوب لبنان والسودان ايضاً. وما زاد من تعميق ذلك التوجه ان ايران اصبحت تتولى رئاسة منظمة المؤتمر الاسلامي منذ أواخر العام الماضي، وهي مسؤولية ادبية الزمتها ابداء مرونة كافية في حل المشكلات والصراعات التي تخض العالم الاسلامي. وكان مسؤولون ايرانيون ابلغوا الرئيس المخلوع برهان الدين رباني عند زيارته طهران قبل اكثر من أربعة أشهر، وكذلك بقية فصائل المعارضة الأفغانية ومنها حزب الوحدة الشيعي، رسالة مفادها استعدادهم للتعاون مع اي جهد سلمي في اطار الأممالمتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي لحل المشكلة الافغانية سلمياً. وكان ذلك التبليغ الدافع الرئيسي لرباني لزيارة باكستان قبل شهور لإبلاغ مسؤوليها استعداده للتجاوب مع وساطة الأممالمتحدة ومنظمة المؤتمرالاسلامي. واستناداً الى ذلك، كان من الطبيعي ان يفسر الاميركيون الموقف الايراني الجديد على انه أزال من امامهم اهم عائق كان يمنعهم من وضع ثقلهم وراء مبادرة الأممالمتحدة. لكن السؤال الذي يظل ملحاً، خاصة بعد اجتماعات اسلام أباد، هو: هل يمكن للمباركة الاميركية لجهود الوساطة الدولية، ان تضمن وحدها اقامة سلام ثابت ودائم وشامل في افغانستان التي تعتبر احدى اكثر بقاع الشرق تنوعاً وتعددية؟ ام ان ذلك يتطلب خطوتين متلازمتين اخريين: اولاهما اقناع الدول المجاورة بوقف تجارتها وتسهيلاتها غير المشروعة المقدمة الى زعماء الميليشيات الافغانية، بهدف اقناعهم بأن السلام هو الضامن الأساسي لمصالحهم، وثانيتهما التمهيد للسلام الافغاني بإقناع الدول الاقليمية، خاصة ايرانوباكستان، بإقامة علاقات طبيعية تنتفي في ظلها الحاجة الى نقل صراعاتها الى أرض أفغانستان.