بدأت الدولة العربية تفقد مناعتها وقوتها امام تيار العولمة، بل بدأت تسلم خطوة خطوة جوانب اعتبرتها جزءاً من حقوق السيادة. والدول في كل مكان فقدت الكثير في السنوات العشر الماضية، وهي في طريقها الى فقد المزيد، وذلك بفعل تيارات التغير الدولية التي تنجلي تحت اسم: العولمة، في الاقتصاد، في الاعلام، في ممارسة الحريات والديموقراطية وحقوق الانسان، في سياسة التعامل مع العالم المحيط ومع التجارة مع المنظمات الدولية، مع رؤوس الأموال الاجنبية ومع القطاع الخاص، الجنوب والشمال، المناخ العالمي، الطاقة العالمية، الاستقرار العالمي. فقدت الدولة الكثير من مبادرتها واستقلالها. وفي الوقت نفسه لا تعني العولمة إلغاء الدين أو الديانات، بل على العكس، يرتببط جزء من العولمة بتحقيق الكثير من أهداف الدين. فمَن من المسلمين توقع ان يكون عدد المسلمين في أوروبا عشرة ملايين... بفضل العولمة. ومَن توقع ان يصل عدد المساجد الى 2000 بعدما كانت 10 عام 1965. هناك في فرنسا من المسلمين اكثر مما فيه من البروتستانت. و "ان تكون أوروبياً غربياً" لم تعد تعني اليوم ما عنته دائماً. وإلا فماذا نسمي الاحياء الجزائرية والمغربية وغيرها في أوروبا؟ والعولمة تسير جنباً الى جنب مع عناصر عديدة، منها حصول رد فعل ديني تجاه عناصر العولمة ذاتها، ويمثل رد الفعل الديني محاولة للاحتماء من عناصر العولمة ولمنع اختراقها الشامل لكل المواقع. ويمرّ رد الفعل الديني بمراحل عدة ايضاً: في المرحلة الأولى يكون الرفض شاملاً لكل ما يرتبط بالعولمة وبالغرب، ذلك "الدينامو" الذي يقف وراء العولمة. وتسعى التيارات الدينية خصوصاً في البلاد الاسلامية الى الردّ على العولمة في الجانب الثقافي والرمزي والاعلامي والسلوكي، فيكثر الحديث عن الغزو الثقافي والاعلامي. لكن الرد الأصولي، كما يسمونه، الذي يغلق كل الابواب في مراحله الأولى لينتج حالة افغانية أو جزائرية أو لينتج ارهاباً ضد ما يعتبره حضارة مادية ساقطة، هو نفسه الذي يبدأ في الاعتدال والتفاعل مع العولمة ومحاولة التأثير والتقبل في اطار الحفاظ على الهوية الثقافية. ان الحالة الاسلامية الراهنة هي من نتائج العولمة ولكنها ليست بالتأكيد حالاً لانهائىة، لأن الحالة الاسلامية ستتغير هي الأخرى وستتأقلم. لكن ما نخشاه، كمتابعين ومعنيين، ان يكون التأقلم الاسلامي مع العولمة متأخراً، وبعد استنزاف داخلي بين اسلاميين وليبراليين، وبين حكومي واسلامي، فيما يأخذ قطار العولمة معه شعوباً ويترك شعوباً اخرى تزداد فقراً أو تزداد انغلاقاً وتراجعاً وانقساماً. ولكن المشكلة الأكبر للعالم العربي والاسلامي انه بينما كنا نبني انظمة ديكتاتورية إبان العقود الخمسة الماضية كان الغرب يبني الديموقراطية وحقوق الانسان. وبينما كنا نمارس الحرب واهدار ثرواتنا على التسلح كان الغرب قد انتهى من الحرب ليسعى الى التكنولوجيا. وبينما كان يعلم اطفاله العلوم والتكنولوجيا وطرق التفكير الحديثة، كنا نعلم أطفالنا شعارات قديمة ونركز على حفظ المعلومات لا على كيفية استخدامها. وبينما كنا نتوسع في ملكية الدولة والقطاع الحكومي توظيفاً وامتلاكاً كان الغرب يشجع قطاعه الخاص. لهذا نقف اليوم خارج الاطار ضعفاء ستتقرر معظم أمورنا في وقت لاحق، وسيكون تأثيرنا فيها محدوداً. كما ان قيامنا بالاصلاح يتطلب قرارات قاسية وصعبة في مجال التعليم ومجال الاقتصاد والانفتاح والتفاعل. تيار العولمة قوي للغاية، والوقوف بوجهه مستحيل بل هو اشبه بالوقوف في وجه طوفان أو بالوقوف في وجه الرأسمالية، لهذا يجب التفاعل معه بعقلية مرنة تحافظ على الذات، ولكنها تنطلق بهذه الذات الى آفاق جديدة. ومن هنا، فإن أزمة الهوية وأزمة التأقلم مع العالم الجديد تتطلب الكثير من التفكّر والتروي وإعادة النظر بالبرامج التعليمية. لنتذكر ان العالم يسير ومن دوننا، واذا سار من دوننا ستكون أوضاعنا أسوأ وصراعاتنا أعمق، ولن ننجح في حماية انفسنا من العولمة. ان الاحتماء الديني الاسلامي أو القبلي، أو الانطواء على الذات باسم القومية او الوطنية، لن يغير من حقيقة ان الجانب الأكبر من العولمة يتم خارج الحدود الوطنية وخارج حدود الأسرة والفرد والقبيلة، واننا سنتأثر به أردنا أم لم نرد. نعم، لقد سقطت الحواجز، واي محاولة لبناء حواجز في اطار هذا التيار الجارف ستخرج بانيها من دائرة العصر وستنتهي ايضاً في نهاية الطريق بسقوط كبير لا يختلف عن ذلك الذي شاهدناه مع الاتحاد السوفياتي. لهذا فإن الحفاظ على الذات يتطلب مرونة، والحفاظ على الهوية يتطلب خطاباً جديداً واسلوب عمل جديداً والوقوف على حلول وسط مع المحدثين والليبراليين في مجتمعاتنا، آن الأوان لعقد صفقة تجانس وآن الأوان لتحديد القضايا التي يجب ان نركز عليها لنلحق بالركب العالمي. وقد يكون الأساس في فهم العولمة والدين هو وصولنا الى مرحلة القبول بالخيارات الاجتماعية والفردية للأفراد وان نقبل بالحريات التي تنجم عن حرية المعلومات والانتقال وانتقال رؤوس الاموال، وانه من خلال هذا يمكن الحفاظ على الهوية الدينية كما يحافظ مسلم اوروبا أو اميركا وسط أجواء الحرية على هويته. علينا ان نجد المعادلة التي يقع فيها تعايش خلاق بين الحرية والدين وبين العالم والانتقال وإلا تأخرنا كثيراً. فعل العولمة قائم، وهو فعل لا يزال في بداياته وسيزداد تأثيراً في العقود المقبلة. ومن نتائج العولمة التي سنراها في المستقبل يرتبط بميل الشعوب والفئات والاجزاء الصغرى والمدن الصغرى للتعبير عن ذاتها ومحاولة تأمين الاستقلال في ظل ازدياد الترابط الاقتصادي بين مدن العالم وبين الأقاليم والاجزاء. لهذا فمن الصعب ان تصمد الدول الكبيرة والحكومات المركزية الضخمة ذات الميزانيات الكبيرة والمسؤوليات الجسام أمام رياح العولمة المترابطة بتأثيرات التكنولوجيا والاقتصاد والمعلومات، إذ ستخرج منها دول وأقطار ومدن ومناطق تتمتع بحكم مستقل أو باستقلال ذاتي فاعل وان كانت ستكون اكثر ترابطاً على الصعيد الاقتصادي. وبينما كان القرن العشرون والقرن التاسع عشر قرني الدول الأكبر حجماً، فإن القرن المقبل سيعطي قوة للدول الأصغر. والسبب الرئيسي في ذلك ان الدول والوحدات الأصغر والمدن التجارية والدول الأصغر حجماً ستجد أنها أقدر على انتاج الثروة وتحسين الدورة الاقتصادية وحل أزمات الوظائف والغلاء وبناء شبكة علاقات عالمية مكثفة مع دول العالم والشركات العالمية نسبة الى الدول ذات الحجم الكبير. والاساس في هذا التوجه هو الحاجة الاقتصادية والاعتماد المتبادل بين الدول. ولهذا، فمن الممكن توقع مزيد من التفكك في روسيا، وفي الوقت نفسه سيكون من الطبيعي ان تؤدي العولمة في القرن المقبل الى خروج ويلز واسكوتلندا وايرلندا من سيطرة بريطانيا، والى استقلال الباسك عن اسبانيا وتفكك بلجيكا وتفكك كندا الى منطقة انكليزية وأخرى فرنسية، ومن الطبيعي ان نستنتج بأن الولاياتالمتحدة هي الأخرى لن تبقى بوحدتها الراهنة بل من الطبيعي ان نشاهد تعزيزاً لقوة ولايات مثل كاليفورنيا وتكساس وولايات اخرى على حساب الحكومة الفيديرالية التي ستشهد تراجعاً وضعفاً. اما في عالمنا العربي والشرقي فإن عوامل العولمة قد تؤدي الى تفكك العراق الراهن وتحوله نحو الكونفيديرالية وبروز الدور الكردي وتوحد الأكراد، أما تركيا فمن الصعب ان تحافظ على وحدتها الراهنة وهذا ينطبق على ايران ايضاً وعلى الكثير من الدول الافريقية بما فيها الجزائر ونيجيريا التي ستجد في الكونفيديرالية افضل الصيغ. اما الصين فستخرج حتماً من مكوناتها دول عدة أصغر حجماً، وهذا ينطبق أيضاً على الهند. ستجعل التكنولوجيا الدول الأكبر والأصغر متساوية في القوة. بل ان الحرب في القرن المقبل ستكون اساساً حرباً بين قبائل وطوائف وتيارات ضمن الدول طريقة الجزائر مثلاً، ثم ان اكثر الدول حظاً في القرن المقبل ستكون مدناً شبه مستقلة وتجارية مثل أبو ظبي ودبي وسنغافورة واللوكسمبورغ وقطر والكويت وبيروت وعشرات الدول والمدن الصغرى والمتوسطة الحجم الممتدة في العالم. لكن هذا لا يعني ان الدول الأكبر ستكون سيئة الحظ، بل يتوقف ذلك على مدى الحجم ومدى العبء الملقى عليها نسبة الى مصادر الدخل وعدد السكان والتنمية. فحظ عمان قد يكون أفضل من اليمن، وحظ المغرب أفضل من الجزائر وبنفس الوقت قد لا يكون أفضل لأن كل هذا يتوقف على مدى المقدرة على التنمية نسبة للتكاثر السكاني وفي الوقت نفسه مدى القدرة على الترابط مع شبكة المصالح العالمية الى أعمق المستويات. وفي اطار العولمة التوجه العام في العالم هو لصالح الديموقراطية وحقوق الانسان، ولم تعد السياسة اسراراً تطبخ بين عدد قليل من الاشخاص، بل تحولت السياسة لأمر علني على مسرح معروف. اليوم نعرف اسماء القادة، أرقام حساباتهم، اسماء أصدقائهم، حياتهم الخاصة، لم تعد هناك أسرار وهذا اتجاه عام سيزداد ويصل الينا. وهذا سيزيد من صعوبة قرار الحرب، وفي الوقت نفسه ستجعل درجة الاعتماد المتبادل بين الشعوب والدول في مجال الاقتصاد من الحروب بين الدول امراً اكثر صعوبة. ان حروب المستقبل لها طابع أهلي مثل الجزائر، البوسنة، الباسك، الاكراد، اما الحروب بين الدول فستكون مكلفة جداً وصعبة وخسائرها مخيفة. هذا يعني ان الحدود بين الدول ستكون أكثر أماناً. ولكن مشاكل الحدود ستكون مرتبطة بتهريب المخدرات، بعبور الجريمة العالمية، وعبور العمالة الغير شرعية. ماذا عن الوحدة الأوروبية في اطار العولمة والاتجاه نحو بروز دول جديدة اصغر حجماً؟ الوحدة الأوروبية ليست وحدة تقليدية، فلكل بلد جيش ولكل بلد سياسة. انها نموذج للقرن المقبل، فهي وحدة مصالح واقتصاد، بمعنى آخر قد تخرج اسكوتلندا وويلز من سيطرة بريطانيا الشاملة لتدخل في اتفاقات اقتصادية مع الوحدة الاوروبية، بل ان اسكوتلندا اكثر حماسة للوحدة الأوروبية من بريطانيا. اذن، فالوحدة المقبلة مهما كان شأنها هي وحدة مرنة أساسها مصالح واقتصاد ورأسمال وانتاج وهي ليست بالضرورة وحدة سياسية أو اندماجية أو وحدة جيوش ومواجهات وشعارات ونشر عقائد وما شابه. في العالم المقبل ستبرز وحدات مرنة فيديرالية وكونفيديرالية تبحث عن زيادة رأس المال والمساهمة في الاقتصاد العالمي من خلال تعزيز دور الاجزاء الصغيرة والدول الصغيرة والمدن الصغيرة، وهذه الوحدات ستخلق حالة وحدة مرنة عالمية تدور في فلك ثلاث وحدات فيديرالية مرنة: أوروبا، اميركا، كندا والمكسيك، آسيا النمور واليابان. اما الشرق فليس واضحاً شكل معالمه في اطار العولمة إلا كطرف متأثر أكثر من مؤثر. ولكن التعامل الممكن مع العولمة في بلادنا: تعزيز الرؤية الاقتصادية لكل شيء، تعزيز الاصلاحات الاقتصادية، تخفيف التعرفة الجمركية، تعزيز الفضائيات وتقويتها بخطاب عربي مرتبط بالعالم ويحافظ على الخصوصية المحلية. ان حل الصراعات العربية - غير العربية - المدعم برؤية تنموية واقتصادية للمستقبل سيصبّ في اطار التعامل مع رياح العولمة، وهو سيؤدي بطبيعة الحال الى عدم استثناء الشرق الأوسط من الارتباط في العالم. الخوف في ظل العولمة هو ان تترك لوحدك: فيكون نموذجك الجزائر والسودان والصراعات. حينئذ ستزداد هذه المنطقة فقراً وستطرد مثقفيها وخبراءها الى أوروبا واستراليا واميركا وآسيا، وحينئذ قد تكون حالها اسوأ من حالها في القرن العشرين.