لم يبق للولايات المتحدة الا ان تعلن عجزها عن انقاذ عملية السلام، بل هي ان لم تفعل ذلك حتى اللحظة تصريحاً رسمياً، فهي قد تكون قد فعلت ذلك تلميحاً، وفي اكثر من مناسبة، خلال الفترة الاخيرة. فهي فعلت ذلك على اثر تلك السلسلة من اللقاءات والمساعي، في لندن ثم في واشنطن، ومجدداً في لندن، وما تخلل كل ذلك من محاولات اخرى متعددة، جدت هنا او هناك في بعض عواصم الغرب، اضافة الى زيارات المبعوث الاميركي دنيس روس الى المنطقة، وما اكثرها وما اقل جدواها، وكل ذلك كان جهوداً اميركية، مصدراً او رعاية وإشرافاً، آلت حتى الآن الى فشل ذريع. وهكذا يكون بنيامين نتانياهو بصدد النجاح في تحقيق الهدف الذي وضعه دوماً نصب عينيه، وانتخب رئيساً للحكومة الاسرائيلية على أساسه، الا وهو نسف اتفاقات اوسلو وما نتج عنها من مسار تسووي، وهو ما قاله وأكده بالطول والعرض خلال حملته الانتخابية، حتى انه ليمكن القول انه اذا ما وجد من طرف، بين تلك الضالعة في عملية السلام، أبدى القدر الأكبر من الانسجام مع نفسه ومع رؤيته ومع الوعود التي سبق له ان تعهدها تجاه ناخبيه، فهو بلا منازع، بنيامين نتانياهو. غير ان ابرز نجاح حققه رئيس الوزراء الاسرائيلي انما هو ذلك المتمثل في انه قد تمكن من فرض روزنامة الفشل تلك على الجميع، خصوصاً على الولاياتالمتحدة، الراعي الأساسي، ثم الوحيد للعملية السلمية اثر استقالة روسيا وانكفائها. والنجاح ذاك قد يبدو، والحق يقال، خارقاً. فالرجل قد تمكن بمفرده من تعطيل عملية هي محل اجماع دولي، او ان من ناصروها وباركوها يفوقون، عدداً وقوة ونفوذاً، من اعترضوا عليها وناصبوها العداء. وقد لا تعود اسباب هذا النجاح الذي حققه نتانياهو فقط الى قدرة دولته على تعطيل الدور الأوروبي ثم الدور الروسي. فهو لم يفعل في ذلك سوى الاستفادة من إرث كانت الحكومات الاسرائيلية العمالية السابقة قد خلفته. ولا أيضاً الى انهيار ميزان القوى العسكري لصالحه وصالح بلاده، او الى استنكاف اميركي، ناتج عن انعدام رغبة او عن عجز، او عن مزيج منهما، عن تسليط اي ضغط جدي وفاعل على الدولة العبرية، او سوى ذلك من الاعتبارات. بل اغلب الظن ان نجاح نتانياهو في تعطيل العملية السلمية، وفي الوصول بها الى هذا الدرك الذي بات يهدد بوأدها تماماً، انما يعود الى ما تتسم به نظرته وسياسته من "تشاؤم واقعي". فتلك النظرة وتلك السياسة انما تصدران عن تشاؤم عميق بكل امكانية تعايش او وئام على صعيد المنطقة. اما وجه الواقعية في ذلك، وما يمنحه قوة اجرائية كبيرة تجعله في وارد القدرة على تعطيل مسار يباركه العالم بأسره، فهو في انه يبدو الأقرب الى المزاج الشائع والغالب لدى الرأي العام الشرق اوسطي، اسرائيلياً كان ام عربياً. لقد قيل مراراً، على وجه حق وصواب، انه لو قيض للممارسة الديموقراطية، من انتخابات حرة او سواها، ان تجد مداها في المنطقة العربية، لجاءت بأكثر الحكام تشدداً، حيال مسألة السلام وحيال مسائل اخرى عديدة، ولكن صحة هذا الكلام تسري على اسرائيل ايضاً وعلى رأيها العام. أليس لافتاً ان تأتي اول انتخابات تجري داخل الدولة العبرية بعد التوقيع على اتفاقات اوسلو، بحكومة كتلك التي يرأسها بنيامين نتانياهو، والتي ربما مثلت تراجعاً، من حيث تطرفها اليميني، حتى قياساً الى الحكومات الليكودية السابقة، تلك التي شكلها مناحيم بيغن او اسحق شامير؟ ثم أليس لافتاً الا يجد العماليون الاسرائيليون، بقيادة ايهود باراك، من سبيل الى استعادة حظوتهم لدى الناخبين سوى السعي الى مجاراة خصمهم الليكودي في اظهار التشدد، وفي التستر على خطابهم السلمي، هذا ان افترضنا انه لا يزال على الدرجة نفسها من القوة بين صفوفهم؟ أوليس لافتاً ان الشخصية العمالية الوحيدة التي ما زالت تجهر بحلم سلامي، نعني شمعون بيريز، قد باتت تتحرك وتبشر بأفكارها خارج حزب العمال؟ ربما كان من أبرز الهنات التي رافقت العملية السلمية منذ بدايتها، وبقطع النظر عن كل قول في الاتفاقات في حد ذاتها، انها قد تكون قد حسبت حساب كل شيء، على الصعيد الديبلوماسي والقانوني والمالي وما الى ذلك من الجوانب، الا انها قد استهانت بالأساسي، اي بمدى استنكاف الرأي العام عن السلام. فهو في الغالب، اما متحفظ عنه، او معاد له، او لا يحتل موقع الأولوية بين همومه وانشغالاته. وإذا ما اعتقدنا بأن الأمر قد لا يتعلق، حالياً، بإنقاذ عملية سلام اصبحت في صيغتها المعلومة هذه في نزعها الاخير، بقدر ما يتعلق ربما، وأساساً، باعادة اجتراحها على اسس جديدة، لعل من بين أهمها وأكثرها حيوية ايجاد السبل، وبذل ما يتعين من جهد من اجل تحقيق انخراط الرأي العام فيها، وتوسيع مجالها حتى يتعدى مجال التفاوض السياسي او الأمني بمفردهما، فذلك مما قد لا يفي به جهد الدول والجهات الرسمية، على اهميته. ثم اذا كان جيداً ان تعمل كل من مصر وفرنسا على الدعوة الى مؤتمر دولي لإنقاذ السلام، على الأقل لأن مثل تلك الخطوة تأخذ علماً بالفشل الذي سجلته الولاياتالمتحدة في الانفراد برعاية العملية السلمية، فتسعى إما الى رفد الدور الاميركي، على ما تقول تصريحات المعنيين الرسمية والديبلوماسية، او الى وضع حد لموقعه الاحتكاري ذاك، على ما يبدو انه الهدف الحقيقي، فإن مثل ذلك الجهد المصري - الفرنسي، اضافة الى ما قد يتضافر معه من مواقف اخرى، لا يمكنه ان يؤدي الى نتيجة الا اذا كانت عملية اعادة اجتراح عملية السلام على اسس جديدة، هدفه الأساسي، وإن كأفق لتحركه. وإذا كان يتعين على عملية اعادة الاجتراح تلك ان تأخذ في الحسبان ما سبق ان استهين به، اي كون الرأي العام في المنطقة ليس رأياً عاماً سلامياً، فإنه يجب عليها من ناحية اخرى ان تنجح في اقتراح مقاربة جديدة للمسألة الأمنية، تلك التي ما انفك بنيامين نتانياهو يستخدمها أداة ابتزاز في مواجهة الفلسطينيين، وتوسلها الى ابعد حد في تعطيل المسار السلمي. وربما كان من بين ما يمكن القيام به في هذا الصدد اقتراح العودة الى صيغة مرنة تجمع بين استقلال مسارات التسوية وبين تلازمها. فإذا كان لكل مسار خصوصياته التي ربما سوغت الاقبال عليه بشكل ثنائي، الا ان بعض المسائل لا يمكن طرحه، وإيجاد سبل معالجته، الا وفق صيغة شاملة، على صعيد المنطقة ككل، وبانخراط اكبر قدر من القوى الفاعلة فيها، وحتى بعض الاطراف الدولية. ولا شك في ان القضايا الامنية تقع على رأس قائمة هذا الضرب من المسائل، تلك التي لا يمكن، بحال من الاحوال، ان تجد لها، في منطقة كالشرق الأوسط على وجه التخصيص، من حل على صعيد ثنائي بحت. وقد دلت التجربة، تجربة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، ان تلك المشكلة الأمنية، سواء استخدمت كذريعة او عبرت عن همّ حقيقي، لم تفلح الا في تعطيل العملية السلمية، واضعة على كاهل الجانب الفلسطيني وزراً لا قبل له بتحمله بمفرده. وما دامت هذه المسألة الأمنية مرشحة لعدم التذليل الا في اطار جماعي، وربما بضمانة وبرعاية دوليتين، فقد يكون من بين ما تتطلبه العمل على انشاء هيئة تنكب على النظر فيها وعلى معالجتها. وهي هيئة قد يتقاطع عملها، وقد لا يتقاطع، مع ما هو جار على مختلف المسارات الثنائية، على اختلاف وقعها ووتائرها ومشاغلها. ومهما يكن من امر، وسواء تعلق الأمر بمثل هذه الافكار او بسواها، فإنه لا يمكن بحال من الاحوال الاستمرار في التعاطي مع العملية السلمية وفق الطريقة التي اعتمدت حتى الآن والتي تبدى اخفاقها الكامل.