كيف سيؤرخ لحياتنا الفكرية من سيعقبوننا من مؤرخي الأفكار؟ هل سينهجون نهجنا فيعمدون إلى الاختيار بين منهج يبوب الأفكار بحسب العصور أو الدول، أو منهج يقسمها إلى مدارس وتيارات، أو ذاك الذي يصنفها إلى اشكالات ومفاهيم؟ لو انطلقنا من المبدأ الابيستيمولوجي الذي يقول إن الموضوع هو الذي يخلق المنهج الملائم، وان ليس هناك منهج واحد يصلح لدراسة جميع الموضوعات، لأصبح لازماً علينا، إذا ما أردنا أن نعين المنهج الملائم، أن نحدد طبيعة الموضوع المدروس. وبما ان الموضوع هنا هو الأفكار التي يتداولها جيلنا، فما الذي يطبعها؟ وما هو المنهج الذي تتطلبه؟ للاجابة على هذا السؤال ربما وجب نهج طريق سلبي ننحي بفضله ما لا يلائم الموضوع المدروس. فالظاهر أن تقسيم فكرنا العربي الحالي، أو على الأصح، الأفكار الرائجة الآن على أرض العروبة، الظاهر ان تقسيمها إلى تيارات ومدارس فكرية ورؤى للعالم، لم يعد ممكناً، إن لم نقل إنه غدا مستحيلاً، ولعل هذا شأن حيوات فكرية خارج وطننا العربي. إلا أن الأهم من ذلك ان "الحياة" الفكرية عندنا لا تسمح حتى بتبويبها حسب قضايا واشكاليات بالمعنى الدقيق لكلمة "اشكالية"، أي بنية من المفاهيم والاشكالات، ذلك أننا بازاء ومضات فكرية، وربما حتى عبارة اشكالات فكرية قد لا تؤدي المعنى، إذ اننا أقرب إلى الاستجابات اللحظية التي لا تعرف "النور" إلا لكي تترك المكان لمن يخلفها. فهي لا تترابط مع غيرها لتكوّن اشكالية ملتحمة مبنينة، ولا تستمر ما يكفي كي تخلق تياراً وتضم أسرة فكرية قد تشكل ما يشبه المدرسة. وربما كان كافياً للاستدلال على ذلك القيام بعرض، لا يخلو من كاريكاتورية لمختلف "القضايا" التي "تقض مضجع المفكرين" العرب حالياً. ليس بامكان هذا العرض ان يكون مستوفياً بطبيعة الحال، ولكن يكفي ان نذكر بعض عناصره كي تتعاقب حلقات سلسلته من تلقاء ذاتها، مثل "المشروع الحضاري العربي" و"الغزو الثقافي" و"نهاية التاريخ" و"الاصالة والمعاصرة" و"مقومات الوحدة" و"قضايا العولمة" و"البنية والتاريخ" و"موت المؤلف" و"المنهج البنيوي". كل من هذه العناوين لم يعمر في فكرنا أكثر من سنتين ليدع المكان للعنوان الذي سيخلفه. لا يعني هذا، بطبيعة الحال، التنقيص من كل قضية من هذه "القضايا"، إلا أن هناك فرقاً شاسعاً بين أن تكون القضية داخلة ضمن اشكالية مترابطة ملتحمة، وبين ان تكون ومضة وموضة تستجيب لحظيا لدوافع أبعد ما تكون عن الأفكار وحياتها وقلقها ومعاناتها وصعوباتها ومخاضها وندرتها، وما يتطلبه كل ذلك من عدم اجماع وشدة خلاف وشقاء وعي.