قبل مئتي عام تقريباً بدأ الاهتمام بالآثار السورية عند الرحالة البريطانيين، فكانت رحلة روبن وود الى تدمر العام 1751 فاتحة مرحلة جديدة نحو كشف التاريخ القديم للمنطقة. وبالطبع فإن العمل الأثري تنوع كثيراً في المراحل اللاحقة وأثرت فيه التقلبات السياسية للدولة العثمانية أو لفرنسا الانتدابية، إلا أن اهتمام جامعات المملكة المتحدة وباحثيها بالتنقيب الأثري في سورية لم ينقطع. وما بين رحلة وود في أواسط القرن الثامن عشر مع كتابه الذي أنجزه عن تدمر والزمن الحالي كشفت الجهود البريطانية والبريطانية - السورية المشتركة جزءاً ضخماً من تاريخ سورية القديم. وأظهرت الندوة التي أقيمت أخيراً في مكتبة الأسد بالتعاون ما بين وزارة الثقافة السورية والمجلس الثقافي البريطاني والمعهد البريطاني لأبحاث بلاد الشام، جانباً من هذا التعاون اضافة للمكتشفات والأبحاث التي وضعت بناء على العمل التنقيبي في سورية. وقد اعتبر السفير البريطاني في دمشق بازيل ايستوود أن هذه الندوة ستكون بداية حوار وعمل جديدين في المجال الأثري بين سورية وبريطانيا. امتدت الندوة على مدى يومين وأظهرت كلمات الافتتاح تاريخ التعاون السوري - البريطاني في هذا المجال، كما قدمت آفاق العمل المستقبلي بين الجانبين والاتجاهات التي سيتم عبرها تطوير البحث الأثري داخل سورية. فالدكتور سلطان محيسن المدير العام للآثار والمتاحف أوضح في محاضرته محطات التعاون بين الجانبين كما بيّن أن المرحلة الحالية ستكون مثمرة أيضاً لأنها تطال نواح تقنية مثل تطوير المتاحف واستخدام أساليب حديثة في تصنيف الأثر والتعامل معه في مجال البحث. وقدم أدريان سيندال رئيس مجلس الأبحاث البريطانية في بلاد الشام فكرة عن عمل هذا المجلس وقال انه يؤمن بالتعاون الشامل بين جميع الجهات بشكل مشترك لانجاز أبحاث حول بلاد الشام، فيهتم بتطوير برامج البحث الأثري والأشكال المساعدة لها مثل المتاحف. وهذا المجلس يتعاون مع المؤسسات البريطانية المعنية ومع الشركات الخاصة المستعدة لدعم برامجه. المحاضرات العلمية في الندوة بدأت بورقة قدمها كل من البروفسور ديفيد والدكتورة جون أوتس من جامعة كامبردج عن "تل براك"، فوصفا الموقع العام والمساحة التي يشغلها وشرحا أهميته عبر العصور التاريخية القديمة. وأوضحا طبيعة العمارة التي سادت هذا الموقع خلال المراحل التاريخية وأنواع اللقى الأثرية التي وجدت فيه، واستعرضا ما طرأ عليها من تعديلات أو تخريب نتيجة غياب دول وظهور أخرى. وقدمت الدكتورة سو كوليدج من معهد الآثار في لندن بحثا تناول جانباً آخر من "تل براك" هو "علم النبات القديم في تل براك"، فأعطت صورة عن تطور هذا العلم وضروراته داخل الحضارات التي تعاقبت على هذا الموقع. وتضمنت هذه الجلسة أيضاً محاضرة للدكتور ريتشارد تيبينغ من جامعة سترلينغ حول تقلبات المناخ ونهاية الامبراطورية الأكادية، فقدم دراسة عن منطقة "جرابلس التحتاني" والمراحل المناخية التي سادتها متزامنة مع نهاية الامبراطورية الأكادية، محاولا ايجاد روابط مشتركة بينهما نتيجة التزامن في الواقعتين. كما أعطى الدكتور غراهام فيليب من جامعة درم فكرة عن صناعة النحاس في سورية وتطورها وأساليب استخدام الزخارف فيها، كما قد مصورة عن أسباب تغير طرق هذه الصناعة وتباين تقنياتها. وفي الجلسة الثانية قدم الدكتور محمد قدور من المديرية العامة للآثار والمتاحف محاضرة عن "المشرفة/ قطنا بين الشرق والغرب"، وتضمنت بعض الأفكار حول طبيعة الاستيطان في سورية الوسطى خلال فترة البرونز الوسيط، فاستعرض الكشوف الأثرية في المنطقة الوسطى مبيناً أنها أبرزت أهمية الاستيطان في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. وأظهرت عمليات المسح الكثيفة هناك أن المنطقة نظمت بدقة على شكل محطات تجارية رئيسية وثانوية لتأمين مرور القوافل من وسط سورية المشرفة/ قطنا الى السواحل المتوسطية، وهذه المحطات كانت موزع بانتظام لضمان انتقال القوافل ضمن رحلة لا تتعدى 20 كيلومتراً. وفي المحاضرة التالية التي ألقاها بيتر بار من معهد الآثار في لندن تحدث عن تل النبي كموقع نمطي لوادي نهر العاصي، فهذا التل المعروف باسم قاديش، واشتهر في العصر البرونزي المتأخر، كان موقعاً لمعركة مهمة جرت بين الحثيين والفراعنة، لكن التل أقدم بكثير من تاريخ هذه الواقعة. اليوم الثاني من الندوة بدأ بمحاضرة للدكتورة ستيفاني دالي من جامعة أوكسفورد حول اللغات والكتابات والناس ما بعد العصر الغامض، وتضمنت شرح محاولات البحاثة البريطانيين في نشر مضمون بعض النقوش والكتابات المكتشفة في سورية، ومقارنتها مع الكتابات الأخرى من أجل ايضاح طبيعة اللغة والثقافة وتطورهما في تلك العصور. وبينت الدراسة استخدام اللغات بشكل مشترك داخل هذه الممالك ما يعطي دلالات على طبيعة العلاقات والتجارة السائدة في الشرق الأدنى. وفي الورقة المقدمة من السيدة منى المؤذن من المديرية العامة للآثار والمتاحف والسيد مايكل ماكدونالد من جامعة أوكسفورد، تم طرح علاقة "البدو المتعلمين" في منطقة حوران بالحضارات الخاصة في سورية، فخلال خمسمئة عام كان البدو الذين يتنقلون ما بين مناطق الأنباط وحدود الامبراطورية الرومانية يتعلمون القراءة والكتابة، ودلت النقوش المكتشفة أنهم كتبوا أسماءهم وأقاموا طقوس عبادتهم وفق أشكال مكتوبة. واستعرضت المحاضرة تاريخ هذه الكشوف التي تمت عبر بعثات أثرية بريطانية - سورية مشتركة. وضمت الجلسة الثانية محاضرة للسيد فريد جبور والدكتور جيفري كينغ من جامعة لندن حول قلعة حمص، أوضحا فيها تاريخ القلعة وموقعها ثم قدما شرحا لعمليات الترميم فيها والجهود المبذولة لصيانة ما تبقى منها. وهذا العمل الذي يتم بشكل مشترك بين السوريين والبريطانيين يتضمن الكشف عن جهات القلعة وعمليات تنقيب ومسح جيوفيزيائي لبعض المواقع. وفي محاضرة أخرى أعطت الدكتورة جوليان اندرسون فكرة مهمة عن الصناعات الزجاجية وورشات العمل في منطقة الرقة خلال عصر هارون الرشيد. واختتمت الندوة بمحاضرتين الأولى كانت للدكتور كامبل ستيوارت عن دراسة الفخار في علم آثار الشرق القديم، شرح فيها تاريخ نشوء هذه الصناعة وتطورها وفق خط ارتقاء استخدام المواد وطرق استخدام الفخار، كما أوضح أهمية هذه الصناعة في دراسة الحضارات والثقافة التي كانت سائدة آنذاك. وفي المحاضرة الثانية أعطى الأستاذ محمد قدور نبذة عن نشوء المتاحف في سورية، والتجربة التي خاضتها مديرية الآثار والمتاحف عبر تأسيس ثلاثة متاحف في دمشق وحلب والسويداء، وتطرق الى التعاون السوري - الدولي في مجال تطوير المتاحف، كما شرح نتائج التعاون المشترك مع الفريق الانكليزي برئاسة الدكتور جيمس بلاك.