في ملحق "تيارات" - "الحياة" 10/5، تساءل الشاعر عمر شبانة: "الشهداء: هل يفجرون الابداع؟". وهو التساؤل الذي قال الشاعر انه أثير من قبل كتاب فلسطينيين، "تنتمي غالبيتهم الى الاتجاه الاسلامي". المضامين والفقرات التي استشهد بها الكاتب كانت مأخوذة من مقال لكاتب هذه السطور في صحيفة "الدستور" الأردنية 10/4 بعنوان "بكت الجماهير وسكت الشعراء!!" ولا أعرف اين قرأ الشاعر شبانة شيئاً كهذا التساؤل من قبل كتّاب من الاتجاه الاسلامي، فيما لا اعرف أحداً قد فعل ذلك، سوى الشاعر يوسف أبو لوز، وهو ليس "اسلامياً"، ويعرفه شبانة جيداً. والمفارقة ان مقاله ومقالي قد نشرا في اليوم ذاته وفي الصحيفة نفسها التي نكتب كلانا فيها ابو لوز، وأنا. كان بودنا ان يقدم لنا الشاعر شبانة تفسيره الواضح لظاهرة غياب - او تراجع - حضور الوطن وهمومه وقضاياه عن نصوص المبدعين، بعيداً عن امثلة المقال الذي ناقشه، والتي تركزت في الشهيدين يحيى عياش ومحيي الدين الشريف، فالظاهرة هنا لا تتركز في حالة او حالتين بقدر ما تمتد لتطال خريطة اوسع، وصفها الشاعر ابو لوز بشهداء ما بعد اوسلو، وأرى انها، تلك الظاهرة المهمة في التاريخ الفلسطيني الحديث ممثلة في مسلسل الاستشهاديين الذين فجّروا انفسهم بحثاً عن الشهادة في سبيل الله وكرمى لعيون وطن مقدّس يستحق التضحية. فالحالة هنا لا تعني عياش والشريف وحدهما، غير ان رمزية هذين الاخيرين هي التي دفعت للاستشهاد بهما، ولعل ما ذكره الشاعر عن كون الرجلين ضحايا للمساومة اكثر من كونهما ضحايا للمواجهة بسبب انهما قتلا اغتيالاً هذا الامر يزيد في رمزيتهما، فالرجلان كان بامكانهما الخروج من الأراضي المحتلة، غير انهما رفضا ذلك بإصرار وكانا يعلمان ان طبيعة حركتهما ستفضي الى الموت اغتيالاً وليس شيئاً آخر. اما مسألة التوقيت، فلا شك ان الاصرار على الشهادة في زمن الانكسار يزيد في دلالاتها ورمزيتها، ويجعلها اكثر قدرة على تفجير الابداع. ونحن هنا لا نتحدث عن ابداع يعالج الرمز/ الاسم بقدر ما نتحدث عن ابداع يتفاعل مع الحالة الخاصة التي يمثلها ذلك الرمز. لم نطالب بإبداع فارغ يمجد الاسم بقدر ما طالبنا بابداع يتفاعل مع التجربة. فعندما قدم الشاعر اللبناني شوقي بزيغ قصيدته الرائعة "الصوت"، اهداها الى اسم بعينه، غير ان القصيدة ستظل خالدة تقرأ كلما تكررت التجربة. فالاستشهادي في "الصوت" يحاور ذاته في مونولوغ ساحر، ويحاور حبيبته فاطمة في مقاطع رائعة. من هنا، فنحن لسنا مع الأمثلة الشائعة لقصيدة المقاومة والوطن، بل مع الابداع المتميز الذي يتسلل الى عمق الحالة ويجعلها أكثر خلوداً. وشعر المقاومة الفرنسية شاهد على ذلك، اضافة الى بعض الشعر الفلسطيني ايضاً. في قصيدته "الديوان" - الحوار الاخير قبل مقتل العصفور بدقائق - قدم الشاعر ابراهيم نصرالله ابداعاً كهذا الذي نتحدث عنه، وقصيدة خالدة حسب تعقيب الناقد عبدالرحمن ياغي على القصيدة. رغم معالجته لحالة خاصة تتمثل في اختطاف حافلة اسرائيلية، ثم استشهاد الخاطفين. لسنا مع ان يكون المبدع تبعاً للاحزاب والقوى المؤدلجة كما يقول الشاعر شبانة، ولكن ذلك لا يعني ان يغلق المبدع عينيه عن الصواب الذي تقدمه تلك القوى، فالشهداء حين يسقطون يكونون ملكاً للوطن كل الوطن، وليس ملكاً للاحزاب. لعل الأسوأ من ذلك كله ما بدأ به الشاعر شبانة وبدأنا به هنا، وهو غياب الوطن وهمومه عن نصوص المبدعين، وليس الشهداء وحدهم. وإذا كان غياب الشهداء الاسلاميين له علاقة بالروح الفئوية على نحو ما، فإن غياب الوطن وهمومه، ويدخل في ذلك الشهداء، له علاقة بأشياء اخرى، كانحياز بعض المبدعين الى تيار التسوية. اضافة الى شيوع تيار الحداثة وهيمنته على المنابر الثقافية، ورفض هذا التيار لقصيدة الوطن والمقاومة، ذلك انه لو بقيت هذه القصيدة تحظى بذات الترحيب الذي كان لها في السابق لما تنصل منها الشعراء بهذه الصورة الواضحة. السؤال ما زال مطروحاً، والشاعر شبانة لم يقدم لنا تفسيراً مقنعاً، والسبب هو تركيزه على حالتين بعينهما، ووضعه للتساؤل في اطار حزبي، لا يمت له بصلة، فيما هو تساؤل ينحاز الى الوطن وهمومه، والى الابداع الحقيقي وليس السطحي.