رغم ان البداوة في رحلة أفول على نطاق كوني، فإن تاريخها يطرق الأبواب بشدة في اصقاع شتى من العالم العربي، ومنها العراق، مذكراً إيانا بما ألفناه في بطون الكتب من تلازم غابر بين التلاحم القرابي والتسيّد، او بوجيز ابن خلدون: الرياسة في اهل العصبية! سيان كان التسيد على دولة، او رقعة منها على الضد من الدولة. خذوا حال ليبيا واليمن الممزقين بانقسام القبائل واصطراعها، او خذوا الصعود السياسي للقبائل في الأردن والعراق. وحال العراق متميز، فهذا البلد كان اواخر القرن التاسع عشر يعد «مقبرة القبائل» في رأي كثرة من المؤرخين، لتوفره على سلطة مركزية، ذات بأس، سلطة عازمة على التركز والتمركز، بينما كانت اصقاع اخرى تعتبر «جنة القبائل» حيث لا سلطة، ولا احزاب ولا نقابات ولا بنوك ولا...، على حد تعبير المستشرق كيم - عبد الله- فيلبي، الذي اختتم بالقول: يالله ما اسعد حياتهم! وكان عليه ان يضيف: وما انكدها يوم تنهض المدن، وتمتلئ بالنقيضين. لا تنعم القبائل، او بقاياها (المسماة في العراق: حمولات او حمايل) بالنفوذ السياسي فحسب، بل باتت تحتل حيزاً كبيراً من الفضاء الحضري (المدينة) تفرض فيه نمطها المتميز، وبالأخص العرف العشائري، على ابناء المدن وبناتها. ثمة شكاوى مريرة لا تنقطع، يمر بها المراقب، في مدن العراق الكبرى: بغداد، البصرة، الموصل، الناصرية، شكاوى «اهل المدينة»، من طغيان العشائر، المهاجرة اليها. ثمة بحث دائم عن «سكان اصليين» في هذه الحواضر، بل ثمة جمعيات لتمثيل «الأصليين». ولا عجب في هذا! فالإحصاءات الديموغرافية للعراق (اوسعها وآخرها عام 1996) تفيد بأن نحو 50 في المئة من سكان المدن الكبرى المذكورة، يقيمون فيها منذ اقل من 5 سنوات، وأن نحو 30 في المئة يقيمون منذ اقل من 10 سنوات. الهجرة او النزوح الداخلي ظاهرة طبيعية. فالمدن تنمو في العالم كله، والقرى تتضاءل، اما البداوة (الرحل في الصحراء)، فتكاد أن تتلاشى. وما كان ازدواجاً متوزعاً مكانياً بين نمطين من المعاش (نظام القيم، العلائق الاجتماعية)، صار ثنائية مقيمة داخل المدن. لم تحتفظ القبائل بكامل تنظيمها الاجتماعي، فهو في تحول وتفكك، لكنها احتفظت بثقافتها، وسلم قيمها، وبقدر من الترابط العصبوي، يزيد او ينقص. لا تتوقف الشكاوى على فيض الهجرة، بل تتعداه الى تصادم يومي بين القبلي والحضري، القروي والمديني، بين العرف والقانون. ولا يطول التصادم عامة الأفراد في تعاطيهم اليومي، بل يشمل سائقي السيارات عند اي حادث تصادم او دهس، كما يشمل الأطباء الذين يسقط مرضاهم فريسة الموت، لأي سبب كان. فهم يواجهون مساءلة عشائرية، او بلغة العرف: عليهم دفع دية عن حياة المتضرر او المريض. لعل ابرز حادثة من هذا النوع وقعت أخيراً في مدينة السماوة (عاصمة محافظة المثنى) وهي بلدة قبلية بامتياز. ها هنا توجب على طبيبة معالجة (الدكتورة النسائية شذى الشطب) ان تواجه عشيرة بأكملها، لتتلقى حكماً بالسجن لعام ونصف عام، وأن تدفع فضلاً عن ذلك «دية» بمقدار 45 مليون دينار عراقي (نحو 40 الف دولار). باختصار عليها ان تتلقى العقاب مرتين، مرة بالقانون الجزائي، وأخرى بالعرف القبلي. في السابق، كان العراق مشطوراً قانونياً الى منطقتين، المدن، التي تعيش وفق قانون الدولة الحديث، والأرياف والبوادي، التي تعيش وفق العرف القبلي الخاص. هذه الازدواجية تفصل النظامين، الحديث والتقليدي، فصلاً كاملاً في الزمان والمكان، وهو حال انتقده المؤرخون (بينهم حنا بطاطو) لأنه كان عائقاً كبيراً امام الاندماج والتكامل الوطني للأمة. التجاور المنفصل ألغي رسمياً إثر ثورة تموز (يوليو) 1958، لكنه ظل قائماً في الواقع. وباحتدام الهجرة بما يفوق طاقة المدن على الاستيعاب، فقدت المدينة قدرتها الثقافية والاقتصادية، وتحول التجاور المنفصل الى تعايش متصل في ثنائية ضارة بالاثنين معاً. وللأمانة، فإن اهمال المدن لعالم القرى، واستعلاءها الثقافي المديد على هذا العالم النائي، انتهيا بمجيء القرية الى المدينة، وإنزال القصاص «المستحق» بالأخيرة. فالفلاح هو اساس الحضارة، ولولاه ما كان للمدن ان تنهض، وحين تدير المدينة ظهرها اليه، فإن لحظة القصاص لن تكون بعيدة. لكن للإهمال المديني وجوهاً عدة: تدهور الزراعة، احتكار المدن لكل ترف الحضارة (الخدمات مثلاً)، وأخيراً، (في العراق) تدهور الدولة، سلطة وثروة، في عهد الحصار المميت. وانتهى الحال الى مفارقة تاريخية: الدولة الحديثة تعيد الاعتبار للعشيرة التقليدية، منذ 1993، يوم استقبل الرئيس المخلوع، صدام حسين، وفود العشائر في قصره الجمهوري، في اعتراف موارب بأن الدولة الحديثة أفلست. وانطلقت موجة عاتية من نشر الموسوعات العشائرية، وبيوت الضيافة (المضافات) في قلب المدينة، وتعيين المشايخ الأصلاء والمزيفين في خدمة دولة هرمة، فاقدة للشرعية. بعد غزو العراق في 2003، فقدت العشائر، او شظايا الحمولات، المقيمة الآن في المدن، لا الأرياف، حظوة الدولة، مصدر المال والسلاح والتمكين والاعتراف القانوني، فأعاد الأميركان، على قاعدة الحاجة الأمنية، احياء التعامل معها، اما الدولة العراقية الراهنة فتواصل سياسات السابقين. ثمة وزارة خاصة بالعشائر، والمؤتمرات العشائرية باتت مناسبات رسمية، اما العشائر فوجدت لها مكاناً راسخاً في «الصحوات» و»لجان الإسناد» شبه الرسمية. اعادة تمكين العشائر تساهم لا محالة في ديمومة الثنائية الاجتماعية والقانونية، التي تشطر حياة المدن، ولكن على غرار التوأم السيامي: مخلوق برأسين وجسم واحد. قوة العشائر في البلدات الطرفية امر طبيعي ومفهوم بذاته، فهذه البلدات قرى كبيرة تحمل في الإحصاءات الرسمية اسم: مدينة. المشكلة هي المدن الكبرى. هذا الانشطار يشل حياة المدن الكبرى، ويعيق التراكم الحضاري، لا لشيء سوى أن عرف العشيرة جزئي (يخص الجماعة القرابية)، والقانون الحديث شامل، كلي، يواجه من يخرقه اياً كان، وكائناً ما كان. فالقانون الحديث هو، بالأساس، تعميم للأعراف، اما الأعراف فهي تشطير للقانون. اسرار تحول القبائل تكمن في ثلاثة: قوة الدولة، الاقتصاد الحديث (السوق)، وثقافة المدن. اما اسرار التواصل فهي رعاية الدولة للجماعات القبلية، غياب الاقتصاد الحديث او ضعفه، (بتقسيم العمل المتشعب، والتعاقد المولد لتلاحم عضوي، هو عصب الأمم الحديثة) وضعف ثقافة المدن. وحين يغيب هذا، يغيب ذاك.