بعث الفلسطينيون، في العاشر من نيسان أبريل، على رواية وكالات الأخبار، تقليداً قديماً تركوه بعض الوقت، هو الإحتفال بمولد النبي موسى. ويحتفل الفلسطينيون بنبي اليهودية، مسلمين ومسيحيين كتابيين وموحِّدين، في مدينة يشوع بن نون، أريحا ذات الأسوار، غير بعيدة من المدينة التي تضم رفات إبراهيم، مسلم الإيمان بالله الواحد الأول، على قول الكتابيين مجمعين. والكتابية الفلسطينية هذه قد تكون من تظاهرات الإجماع الكتابي القليلة والنادرة. ولعل تاريخ الإحتفال، على ما يرويه المحتفلون أنفسهم رواية متواترة تتفق وبعض الأخبار التاريخية المعروفة والثابتة، يسوغ هذا الإجماع أو يحمله على ما يسوغه. فهو يرجع إلى صلاح الدين الأيوبي، وتخليصه القدس وبعض فلسطين من استيلاء الفرنجة الصليبيين وممالكهم. وصلاح الدين "بطل" على معنى الشارة والعَلَم يجمع تحت عباءته ورايته المسيحية الشرقية التي سامتها المسيحية الغربية الغازية الاستعلاء والمهانة والتخريب تخريب القسطنطينية وحرقها في الحملة الثانية. ولا ريب في أن اليهودية المشرقية قرأت في انتصاره على ناسخي العهد "العتيق"، ومحمِّليها وزر دم ابن الإنسان وقتله، علامة من علامات الزمن. أما المسلمون فرد عليهم تحرير بيت المقدس بعض العزة والكرامة، وأخرجهم، بعض الوقت، من تراخٍ يراه بعضهم مقيماً. وأوكل صلاح الدين، المولى المسلم والكردي القوم والمنبت، إلى الصوفية وطرقها رعاية الكتابية الجامعة هذه. فحمّلها المعاني الكثيرة والمختلطة التي صدرت عنها، واستمرت على الصدور عنها، وكانت من مرافقها وهيئاتها. فإلى التعبد والتنسك جمعت الصوفية القتال والسفر والتجارة والهجرة والتعليم والتسليك والتقليد والتجديد والتأويل. فوسعها أن تخلط مصادر اعتقاد متباينة، تحفّظ أهل هذه المصادر، وولاة انفصالها، عن خلطها ومزجها، وبدَّعوهما وكفروهما في معظم الأحيان. لكن التحفظ والتبديع والتكفير لم تحل دون إقبال بعض الجماعات، في أوقات الإنقطاع والإبتداء وفي مواضع قد تكون بلاد الكرد على القوس الأناضولي نجدها، على التوليد والخليط الصوفيين. وتصدي الأيوبي الكردي للغزوات الأوروبية والصليبية، وهي كذلك كانت أوائلها مترعة بالرؤى والمواقف والمشاهد، كان في وقت من أوقات الإنقطاع والإبتداء هذه. فعمد الى تجديد مقامات الأنبياء، ولم يميز صالح من شعيب أو من روبين، على ما يروي الشيخ محمد اسماعيل الجمل. ودعا المؤمنين، وأولهم عدداً المسلمون، إلى النزول حول المقامات هذه، والإحتشاد بجوارها القريب. واصطفى للمقامات المتجددة أماكن تقع على طرق الحج المسيحي الغربي إلى الأرض المقدسة، مهداً وقبراً وجلجلة. فكانت المقامات رباطات تشحن بالناس والمقاتلة، شأن الثغور والمسالح يوم كانت تقوم عليها قوة سياسية وعسكرية مقتدرة. وجمعت، على المثال الصوفي، الحرب والسفر والإقامة والاختلاط والتدبير، ومزجت روافد إيمان واعتقاد بعدد الأنبياء الذين جدد الأيوبي الكردي مقاماتهم، واصطفى لهم مواضع مدافنهم على النحو الذي اصطفاه لهم. وتقاسم المؤمنون أغراض إيمانهم على نحو ما تقاسموا المسكن والمأكل. وبقي تقاسم المأكل شعيرة بارزة من شعائر الإحتفال إلى اليوم. فيأكل المحتفلون في حجرات المقام التي تبلغ الثلاثمئة وست عشرة حجرة. وهم يأكلون، عائلات وأسراً وليس أفراداً ولا صَحْباً، طعاماً يحملونه معهم من بلادهم، ويقيمون "مآدب جماعية"، على قول الوكالة، فيتبادلون بعض طعامهم، ويؤاكل بعضهم بعضاً. والمؤاكلة من شعائر التآخي والمقاسمة الأولى. وهي من القرائن على إرادة انتساب مشترك إلى مصدر واحد، تجدد المؤاكلة "مادته"، وتحمله على معنى الحياة ودوامها وسريانها في أجسام مختلفة ومنفصلة. ويجمع الطعام، على تأويله الصوفي، الآكلين المؤمنين على نحو ما تجمع حلقات الذكر الإسم الأول على شفاه الذاكرين أهل الذكر، والمدائحُ النبوية المادحين، وإيقاعُها المتحلقين والمتمايلين، وعلى نحو ما تجمع المواكب "السداري" أخلاط الناس وروافدهم في "بحر" واحد أو رباط واحد وأمة واحدة. وبقيت المبارزات بالسيوف والعصي صدى يردد ملابسة الحرب الاجتماع الصوفي، وقيامها ركناً من أركانه. ولم تغب السلطة الفلسطينية عن انبعاث الاحتفال. فكان أحد وزرائها، المفاوضين، في الحاضرين المحتفلين. ولعله كان مفاوضاً ومحارباً ومسافراً ومقيماً، معاً، على شاكلة الإحتفال.