شاعر وباحث اوكتافيو باث. شاعر وناقد هو. وما يعنينا من التوقّف عنده اليوم، غداة رحيله، هو الوجه النقدي، طالما ان الجانب الشعري قيل ويقال فيه الكثير، وهو وحده لا يختصر رؤية الرجل ونفاذ بصيرته وثقافته المنفتحة على ثقافات الشعوب المختلفة. بل أكثر من ذلك، لأن فهمه للشعر لا ينفصل عن النقد بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، وهو القائل ان "أدباً بلا نقد ليس أدباً حديثاً". والنقد الأدبي هنا يواكب، بالضرورة، النقد الفكري والفلسفي. وهذا ما نفتقر اليه بشدّة في عالمنا العربي، وتفتقر اليه، بصورة عامة، دول العالم الثالث. واذا كانت تطالعنا شذرات نقدية واستثناءات في هذا المجال، فنحن لم نبلور في لغتنا بعد فكراً نقدياً حقيقياً، هذا في حين نجد العلاقة قائمة بين التفكير في مجالات الفلسفة والعلوم والتاريخ من جهة، والابداع من جهة ثانية، بين الشعرية والشعر، في ثقافات اخرى. ففي العصر الحديث كان بعض الشعراء انفسهم نقاداً، من بودلير الى اليوت. وهكذا فان "الأدب الحديث، بالنسبة الى باث، هو ادب نقدي في المقام الاول ولا يمكن ان يكون إلا كذلك. نقد العالم الذي نعيش فيه. نقد النقد ذاته. ان نقد لغة ما هو ابداع للغة". وهذا ما تناوله بوضوح في معظم بحوثه المتعلقة بالشعر، خصوصاً في كتابه "القوس والقيثارة" الذي يتساءل فيه عن أصل الشعر والحركات الشعرية وتلاقح الآداب. من نتاجه الشعري، وقد بلغ ذروته في مجموعته الشعرية الشهيرة "حجر الشمس" 1957، وهي قصيدة طويلة حول الحبّ والحرية، الى نتاجه الفكري والنقدي مع كتبه: "شفافيّتان: مارسيل دوشان وليفي شتراوس"، و"متاهة العزلة"، و"الاخت خوانا ايناس دي لا كروث"، و"القوس والقيثارة" و"الشعلة المزدوجة"... ترتسم معالم نتاج شاسع يبدأ بالأساطير والشعر والشعرية ولا ينتهي بموضوعات الفكر والسياسة والحداثة والحب والجنس... أي انه يتطرّق الى بعض أبرز المسائل التي شغلت المثقفين طوال هذا القرن. وفي كتاب آخر في عنوان "مسار"، يكتب باث سيرة العالم الراهن وقضاياه الساخنة وتطلعاته على عتبة الألف الثالث، ويكشف في هذا النتاج عن خيبة أمل كبيرة مما آل اليه العالم بعدما كان راهن طويلاً على استتباب الحرية والديموقراطية. كما يتناول أبرز الموضوعات التي عالجها في كتبه ودراساته، وفي مقدّمها موضوع الحداثة. وهو يقول، في هذا الصدد، ان فكرة الحداثة كانت مرادفاً لاعتبار المستقبل ارضاً موعودة. لكن سرعان ما تراجع هذا التصور وحلّ محلّه السؤال التالي: هل ستشرق علينا الشمس غداً؟ وما يسوّغ طرح مثل هذا السؤال الاستغلال "المنظّم" للثروات الطبيعية واستنفاد طاقاتها بطريقة لم يسبق لها مثيل، وتزايد الحروب والمجاعات والردّات الاصولية والسلفية والعنف وانتشار الاسلحة النووية... وهذا النسق الاستهلاكي المتعاظم الذي يكرّس في العالم قيمة واحدة هي المال. ويلاحظ باث ان التوازن النووي اذا كان انقذنا من حرب عالمية ثالثة، فان مجرّد وجود الاسلحة النووية هو تعطيل لحلمنا في التقدم. وإذا كانت القنبلة النووية لم تدمر العالم، فهي دمّرت تصورنا المثالي لهذا العالم. هكذا تغيب شمس التقدّم عن الأفق ولا نعرف اذا كنا نعيش غسقاً أم فجراً. ويشير باث الى الأصوات التي لا تنفك تعلن، منذ حوالى قرنين من الزمن، النهاية الوشيكة ل "مجتمعاتنا"، ضمن مفهوم الحداثة الذي يتغذى من حالات النفي الناتجة عنه، من شاتوبريان الى نيتشه ومنه الى فاليري. وتضاعفت، في العقود الاخيرة، الاصوات التي تنذر بالكوارث. ولم تعد تلك الاصوات مجرّد تعبير عن يأس منعزل أو عن قلق أقلّية مهمّشة، وإنما اصبحت صدى لحالة نفسية جماعية. ان فكر باث المشرّع النوافذ على الفكر العالمي، وثقافات الشعوب وحضاراتها، وعلى تاريخ الأديان والألسنيات والآداب العالمية، ينطلق من تأملاته في المكسيك، وهذا ما كرّس له الكثير من الابحاث والكتب، وأبرزها كتابه "متاهة العزلة" 1950، وهو دراسة معمّقة للحضارة المكسيكية منذ مرحلة الغزو حتى ايامنا. وتتضمن مراجعة للثقافة الهندية السابقة لوصول كولومبس، وتقويماً لها في قراءة مقارنة مع قيم الحضارة المادية الاستهلاكية الحديثة. وهو يوضّح في هذا المجال ان الموت الفردي الذي كان يعدّ، في المكسيك القديمة، الضدّ المكمّل للحياة، ضمن دورة كونية واحدة، انسلخ عن هذا المفهوم اليوم، مع افلسفة المهيمنة للتقدم التي تزعم انها قادرة على التغلّب على الموت الفردي من خلال تجاهله ونسيانه، ومن خلال تركيزها على الحاضر الآني فحسب وعزله عن سيرورة الزمن. اي ان الحضارة الاستهلاكية تبشّر بسعادة مرتبطة بقدرة الفرد على الاستهلاك، الى درجة ان الاستهلاك بات هو شرط الحياة والوجود معاً. وهنا يرى باث ان زمامنا الحالي الذي ألغى التفكير عبر وسائله الاعلامية الحديثة واعلاناته وعاداته المستحدثة، بالموت الفردي، اصبح عصر الموت الجماعي بامتياز. من البعد الحضاري الى البعد السياسي المباشر، يعتبر باث انه من المستحيل تجديد المكسيك اذا لم تستقم فيها ديموقراطية فعلية. فالديموقراطية، بحسب رأيه، ليست دواء للتخلص من وضعية التخلّف التي تعاني منها الدول النامية، إنما هي الوسيلة التي تساعد على الخروج من هذه الوضعية". ومن انطباعاته عن الواقع السياسي في بلاده، يخلص باث الى التحذير من الخطر الذي تمثله الدولة "الاكثر طغياناً من اكثر الطغاة في الماضي". والوضع في المكسيك ليس حالة فريدة، ذلك ان العالم يعيش اليوم، ومنذ سنوات، النتائج المترتبة عن موت الهاجس والمشروع. اما المشروع، فكان يتخذ صفات ونعوتاً عدة، منها التقدّم والثورة، وقد استهلكت هذه الصفات بأكملها. هكذا يتبدّى ان غوص باث في حضارته القديمة وفهم بيئته المحلية الراهنة المكسيكية والاميركية اللاتينية هو الشرفة التي يطل منها على اسئلة العالم وقضاياه. وهو بهذا المعنى كاتب عالمي ينتمي الى ذرية من المثقفين والكتّاب الاميركيين اللاتينيين الذين فتحوا الأدب الاميركي اللاتيني على العالم. ومن هؤلاء يمكن ان نذكر، على سبيل المثال، ألفونسو رايس، وميغل انخل استورياس، وخورخي لويس بورخس، وخوليو كورتاثار، وكارلوس فوينتس، وغابرال غارثيا ماركيز، وماريو فارغاس يوسّا... وأسّس باث مع هؤلاء، ومع غيرهم، علاقات ثقافية جديدة تتزاوج فيها المعطيات المحلية مع المعطيات الثقافية العالمية لينتج عنها هذا الأدب الذي تجري في عروقه دماء كثيرة. فالأدب الاميركي اللاتيني يتمتع بحساسية جديدة، وهو لا يتميّز فقط ب "واقعيته السحرية"، وباللجوء الى الاسطورة، وبهاجسه الشعري الحاد، وبالانشغال بفكرة الزمان والمكان، وبالأسئلة الفلسفية والماورائية، وإنما يتميز ايضاً بوعيه خصوصيته التاريخية والثقافية، وباختزانه وجدان شعوب بأكملها، عبر عاداتها وتقاليدها وطقوسها واحلامها، وبسعيه الى اعادة الاعتبار الى قيم ثقافته القديمة، بالاضافة الى استيعابه الثقافة الاوروبية وتفاعله معها وانفتاحه على التيارات والتجارب المعاصرة. ضمن هذا الافق ننظر اليوم الى تجربة اوكتافيو باث والى نتاجه الذي يتسم بنزعة انسانية خالصة جعلت منه احدى العلامات المضيئة في القرن العشرين. ضمن هذا الافق ايضاً نفهم انتقاده الايديولوجيات السياسية المعاصرة والمثقفين الذين يتبنّونها، ويقول عنهم انهم "عبدوا ثور العنف الايديولوجي والسلطة الجائرة. وهو ثور مدمّى يحمل بين قرنيه احشاء ضحاياه كأنها أكاليل زهر..." من هنا يدعو باث الى ممارسة النقد، أدبياً كان او فلسفياً او خلقياً أو سياسياً، بوصفه ضرورة ملحّة، وبوصفه الدفاع الوحيد ضد مونولوغ السلطة والمتسلّطين. واذا كان النقد، على حد تعبيره، لا يستطيع وحده ان ينتج أدباً او فنّاً، اوحتى سياسة وليست تلك مهمته، فهو قادر على توفير الفضاء اللازم لانتشار الفن والأدب والسياسة. ولا نستغرب هذه الآراء التي اطلقها باث طالما انه صاحب موقف من القضايا والمشاكل الاساسية المطروحة في المجتمعات الحديثة. وهو يجمع بذلك بين نظرته المنفتحة على الابعاد الكونية واهتمامه برصد تفاصيل الحياة اليومية. فهو في الحرب الاسبانية وقف الى جانب الجمهوريين. وكان من أوائل المثقفين الاميركيين اللاتينيين الذين قاطعوا الستالينية وحذّروا من اخطار الحكم القائم على الاستبداد. فانتقد التجربة الشيوعية وانفصل عن اصدقائه الشيوعيين بعد اغتيال تروتسكي. في قراءته للواقع الروسي، يعتبر باث ان ثورة 1917 احدثت تغيراً كبيراً، لكنها لم تتخذ شكل قطيعة. بين بطرس الاكبر ولينين، بين ايفان الرهيب وستالين، لا يوجد انقطاع، بل تواصل. الثورة البولشفية لم تدمّر القيصرية الا لتستمر الاستبدادية الروسية، بصورة افضل. لقد وضعت هذه الثورة حداً للأرثوذكسية المسيحية. استبدلتها بفكر اقل روحية وأقل تسامحاً في آن من الديانة التقليدية. وفي تعبيره عن فشل المشروع الشيوعي يقول باث "ان خيبة الأمل التي يُصاب بها مسيحي عاش في القرن الثاني ثم عاد فبُعث حيّاً واكتشف ان الفي سنة مضت ولم تحصل العودة الثانية للمسيح - العودة التي كانت تُعَدّ وشيكة الوقوع في زمانه - ان خيبة الامل هذه لن تعادل الخجل الذي قد يشعر به كلّ من ماركس وانغلز لو كان بمستطاعهما رؤية المصير الذي آلت اليه افكارهما بعد قرن ونصف القرن من نشر البيان الشيوعي. وحين يلتفت الى المشهد الأدبي في خضمّ الواقع السياسي الروسي، يقول ان نهضة الأدب الروسي الجديدة هي نهضة معنوية اكثر منها نهضة ادبية. وسولجنتسين يمثل بهذا المعنى وعياً لا اسلوباً، ذلك ان "نتاجه شهادة على رعب عالمنا اكثر منه رؤية للعالم". واوكتافيو باث شاهد على احوال العصر وتحولاته، ساعده عمله في السلك الديبلوماسي على اكتشاف عوالم جديدة وثقافات جديدة. وفي دلهي حيث أقام ستّ سنوات، انفتح على ثقافات الشرق الاقصى، وكان لانفتاحه أثر كبير على نتاجه. وقد عمّق اهتمامه بثقافات العالم وحضاراته رؤيته لثقافة بلاده التي سبقت مجيء كولومبس، وهو شديد الارتباط بها لما كشفت له عن قيم جمالية وعن أبعاد انسانية نادرة، وهي ظلّت حيّة في نفسه على رغم اندثارها تحت حوافر خيول الفاتحين. ولا يدعي هذا المقال الاحاطة بالجانب الفكري الشاسع الذي تجلى في نتاج اوكتافيو باث النقدي. انه محاولة سريعة لاضاءة بعض جوانب هذا الفكر الذي تحتاج مناقشته الى دراسات وكتب، خصوصاً ان خلفيته، الفلسفية والشعرية على السواء، تفتح المجال امام نقاش واسع في مسائل جوهرية من مسائل هذا العصر... إبن عصره اوكتافيو باث. وكالرائين الكبار، هو ابن الازمنة الآتية دائماً من جهة المستقبل.