يعتبر رادوفان كاراجيتش الأهم في لائحة المطلوبين التي اعلنتها محكمة لاهاي لجرائم الحرب في مناطق يوغوسلافيا السابقة، حتى الآن، والتي تضم 77 متهماً، لمكانته المتميزة اثناء الحرب البوسنية وخطورة الدعوى القضائية المنسوبة اليه في مجال مخالفة القوانين الدولية وانتهاك اعراف حقوق الانسان. وعلى رغم النكسات التي مني بها كاراجيتش منذ توقف القتال البوسني نهاية 1995 وتجريده التدريجي من مراكز قوى السلطة، فانه، وهو ملاحق، ظل مهيب الجانب، مواصلا صلابة مواقفه التي تصل حد تحدي خصومه المحليين والدوليين، مضللا حتى في مكان وجوده، ومحيراً ازاء تسليم نفسه الى محكمة لاهاي، وملغزاً في بقائه خارج متناول قوات حلف شمال الاطلسي وصرامة تهديدات الادارة الاميركية. لكن الذين يعرفون كاراجيتش جيداً، يوعزون الى غيره اصطناع الكثير من الغشاوة المحيطة به، لحسابات خاصة بهم، ويؤكدون انه ظل في طبعه على جذوره القروية، مناقضاً لاساليب الديبلوماسية في مسلكه، اذ اعتاد، اما ان يتجنب كشف ما في جعبته بالتزام السكوت، او ان يكون صريحاً اذا تحدث. فهو - مثلا - لم يخادع لأخفاء هدفه بفصل جزء البوسنة الذي يراه ارضاً للصرب، ولم يتملص في توضيح موقفه بأن "عهد التعايش العرقي في البوسنة انتهى بانهيار يوغوسلافيا السابقة" وظل يعلن انه "لا يتفق مع الاوروبيين والكروات في خشيتهم من قيام دولة خاصة للمسلمين في البوسنة تبقى ملكاً دائماً لهم من دون اخطار منازعة الاخرين". وكان يؤكد ان المفاوضات تعني عنده "ترسيخ نتائج الحرب لجميع اطرافها بحلوها ومرها" وطالما وصفته رئيسة صرب البوسنة الحالية بيليانا بلافيتش عندما كانت تتسلق المناصب بفضل بركاته بانه "افضل سياسي صربي في صدقه". شخصياً، التقيت كاراجيتش مرات عدة، قبل الحرب وخلالها، في ساراييفو وبلغراد ولندن، ووجدته بارعاً في تعامله مع الصحافيين، على مختلف اتجاهاتهم وارتباطاتهم العملية، فهو لا ينهي لقاء معهم ما داموا يواصلون توجيه الاسئلة، واذا شاء البعض منهم مناقشته على هامش ما تحدث به، فانه يظل واقفاً متبادلاً الحديث معهم ما رغبوا، وفي مؤتمرات الاطراف البوسنية والوسطاء الدوليين، كان مقصد الاعلاميين لأنه الوحيد الذي لا يتوانى عن كشف ما شهدته القاعات والاروقة، غير آبه برغبات الاخرين لصيانة ما ينبغي ان يبقى سراً. واللافت ان صعود نجم كاراجيتش تحقق لانه ليس بوسنياً، اذ تم اختياره رئيساً مؤقتاً للحزب الديموقراطي الصربي خلال مؤتمره التأسيسي في ساراييفو عام 1989، حسماً للخلافات بين قادته من الصرب البوسنيين على الزعامة. ولذا فهو لم يتسلم اي منصب حكومي حين تشكلت مؤسسات البوسنة - الهرسك على اسس تقاسم المناصب العليا بين المسلمين والصرب والكروات في الفترة التي سبقت الحرب، لكن تصاعد المشاكل في البوسنة اقتضى بقاءه وحوّله الى زعيم لا يجرؤ احد على منافسته او ازاحته. ولد رادوفان ويعني اسمه: الفرحان في 19 حزيران يونيو 1944 في قرية بيتنيور وسط جمهورية الجبل الاسود، وأبوه فوك اي: الذئب. اما كاراجيتش فهو لقبه العائلي معناه: الرمح الاسود. انتقل الى ساراييفو وعمره 15 سنة بعد قبوله في المعهد الطبي الثانوي، ثم واصل دراسته في كلية الطب بجامعة ساراييفو حيث تعرف على زميلته ليليانا زيلين، وتخصصا معاً في الامراض العصبية. وتزوجا في 1968 بعدما اخذت لقبه وكان قرر الاقامة الدائمة في البوسنة، وانجبا ابناً هو ساشا في 1970، الذي عمل سائقاً لوالده منذ بدء الحرب، وابنة هي سونيا في 1972 التي تشرف على اجهزة اعلامية في بلدة بالي منها اذاعة القديس يوحنا الخاصة. اما زوجته ليليانا فقد تولت ولا تزال رئاسة منظمة الصليب الاحمر في الجمهورية الصربية البوسنية. عمل كاراجيتش بعد تخرجه طبيباً في مستشفيات الامراض العصبية في البوسنة وشارك في دورة تدريبية في الولاياتالمتحدة افادته في اجادة اللغة الانكليزية، واعتقل عام 1987 لمدة 11 شهراً بتهمة الحصول على قرض غير شرعي لبناء سكن له، واستغل فترة سجنه في تأليف كتاب اخلاقي بعنوان "تناقضات الطبيعة البشرية". ويضع الصرب كاراجيتش في صف شعرائهم القوميين وله دواوين عدة مطبوعة منها "انني احس بحكايات الشر" و"الخطوات الصائبة". وقد حصلت اعماله الادبية على تقدير جهات محلية ودولية منها جائزة الكتاب الروس عام 1995. وتتنوع هوايات كاراجيتش، فهو خلف قدير لوالده في العزف والغناء على آلة "الربابة" كثيراً ما اطرب ضيوفه وكسب ودهم، منهم المبعوث الروسي الخاص اثناء الحرب البوسنية فيتالي تشوركين الذي آثر مرات عدة خلال مهماته السلمية المبيت في بلدة بالي ليشنف اسماعه بفن "المطرب الشعبي رادوفان كاراجيتش". وهو يوصف ايضاً بأنه لاعب "قمار" ماهر، قرر تأجيل مغادرته لندن ليوم واحد بعد انقضاء جلسات المؤتمر الدولي حول يوغوسلافيا السابقة في آب اغسطس 1992 لأن الوسيط الاوروبي الذي عينه المؤتمر اللورد ديفيد اوين وعده بجولة ليلية في محلات القمار اللندنية. ووفق المصادر الصربية، فان اكثر ما ازعج كاراجيتش كانت الانتقادات اللاذعة التي وجهتها له زعيمة اليسار اليوغوسلافي ميرا ماركوفيتش في مقالاتها النصف شهرية بمجلة "دوغا" الصادرة في بلغراد، وحذرته من التمادي في المزايدة على زوجها سلوبودان ميلوشيفيتش في "العمل من اجل الاهداف القومية والاحتلام بزعامة الصرب" وذلك رداً على تصريح نُسب الى كاراجيتش جاء فيه "آن على ميلوشيفيتش ان ينسحب سريعاً ويعود الى المجال المصرفي الذي زاوله في بداية حياته العملية، لأنه لم يعد مقبولا من الصرب في مضمار السياسة". ومهما تنوعت التقويمات لشخصية كاراجيتش وممارساته، وتباينت المواصفات التي تطلق عليه والاتهامات الموجهة اليه، فان هناك حقيقة واحدة ينبغي عدم نكرانها وهي انه جسد في افضل صورة اهداف الصرب المتوارثة. وأين وصل به المطاف، فسيبقى ابرز بطل يخلده الصرب في مرحلتهم الراهنة، أسوة بقائد انتفاضاتهم على العثمانيين مطلع القرن التاسع عشر جورج بيتروفيتش كاراجورجه الذي كافأوه بجعل احفاده ملوكاً عليهم. وهو بكل تأكيد اسمى ما يصبو اليه رادوفان كاراجيتش.