كان ذلك عند المرحلة الأولى من الحرب العالمية الثانية، أيام كان هتلر لا يزال يحقق الانتصارات، فيما بريطانيا تنهزم هزيمة إثر أخرى وفرنسا غائصة في عارها بعد احتلال النازيين لها. في ذلك الوقت كانت القوات الأميركية تتجه الى الخارج ولكن لحماية مناطق قريبة منها كجزيرة غونيلاند مثلاً. أما السوفيات فكانوا لا يزالون يعيشون زخم اتفاقهم مع هتلر. في ذلك الحين كانت كل هزيمة لبريطانيا، ولو على أيدي النازيين، تعتبر محط شماتة لدى الشعوب التي كانت هذه الأخيرة تستعمر بلدانها. من هنا حين راحت القوات الألمانية في بلجيكا تذل النساء البريطانيات المقيمات في بروكسل وتعتقلهن، أو حين قام رشيد عالي الكيلاني بانقلابه المناوىء للانكليز في العراق، مدعوماً من المانيا النازية، أو حين حوصرت القوات الانغلو - استرالية في طبرق من قبل الألمان... حين راح يحدث كل هذا عمّ بلداناً كثيرة سرور كبير. لكنه لم يكن ليعادل السرور الذي اجتاح تلك البلدان يوم الثالث والعشرين من نيسان ابريل 1941 حين أنجز هتلر احتلاله للمناطق الرئيسية في البلقان، لا سيما ليوغوسلافيا واليونان، وبدأت القوات البريطانية تنسحب بعد محاولات مقاومة غير مجدية باتجاه كريت ومصر، تاركة وراءها مجمل الأسلحة الثقيلة التي كانت تريد استخدامها لرد غائلة النازيين عن تلك المنطقة من العالم. لقد كان ذلك الشهر كله شهر الألمان في البلقان، إذ في السادس منه وفي وقت واحد، بدأت القوات الألمانية بشن هجوم مزدوج باتجاه يوغوسلافيا واليونان. وهو هجوم وصل الى ذروة نجاحه في البلدين معاً يوم 23 نيسان ابريل. بالنسبة الى هتلر، الذي - بأريحية المنتصر - كان هذه المرة مصراً على أن يكون لهجومه مبرر، كان المبرر ان الهجوم انما هو رد على انزال القوات البريطانية في ذلك المكان من العالم، مما يشكل خطراً على مكتسباته في أوروبا الوسطى. والحقيقة أن بريطانيا كانت قد أرسلت قواتها الى السواحل اليونانية استجابة لدعوة وجهها اليها رئيس الحكومة اليوناني الكسندر كوريزس الذي كان قد ابدى قلقه ازاء احتشاد القوات الألمانية عند الحدود اليونانية. إذن، حصل هتلر على المبرر اللازم له، وراحت قواته تهاجم اليونان. صحيح أن القوات اليونانية، على ضعفها، أبدت مقاومة شرسة لا سيما على خط ميناكساس، غير انها سرعان ما انهزمت أمام تدفق القوات الألمانية وعجز الإنكليز عن خوض المعركة كما يجب، وهكذا إذ رأى رئيس الحكومة اليونانية ان الهزيمة حلت ببلاده لا محالة، أقدم على الانتحار. صحيح أن الدعاوة الألمانية ستقول ان كوريزس لم ينتحر بل انه قتل، مثل سلفه يوانيس ميناكساس، في داخل السفارة البريطانية في أثينا، غير أن هذا لن يبدل من الأمور شيئاً. المهم في الأمر أنه ما أن حلت صبيحة الثالث والعشرين من نيسان حتى كانت القوات اليونانية قد هزمت تماماً واستسلمت. والطريف ان موسوليني أحس بالإحراج، فطلب من حلفائه الألمان أن يكون هناك استسلام ثانٍ، شكلي، في سالونيك في اليوم التالي، يقوم به الضباط اليونانيون أمام ضباط ألمان وإيطاليين، فكان له ما أراد. وهكذا فرض على اليونان، المهزومة والعاجزة أن تعتبر ايطاليا منتصرة عليها مع أن القوات اليونانية كانت قبل 6 نيسان قد هزمت الإيطاليين مرات عديدة. في الوقت نفسه، بل في اليوم نفسه، كانت القوات الألمانية تنجز دخولها الى معظم الأراضي اليوغوسلافية الصورة. والحقيقة أن المانيا كانت قد بدأت هجومها الكاسح على يوغوسلافيا من دون إعلان مسبق للحرب، وذلك عبر هجوم جدي شن على بلغراد، واثر ذلك الهجوم راحت القوات الألمانية خلال الأسبوعين الثاني والثالث من نيسان تتدفق آتية من المجر وبلغاريا والنمسا، في اتجاه زغرب ومقدونيا. وهكذا اضطر الجيش اليوغوسلافي الذي أخِذ على بغتة، ووجد السياسيين يتجاوزونه باعلان التحالف مع النازيين لا سيما في سلوفينياوكرواتيا الى التراجع والاستسلام. كرواتيا انتهزت الفرصة، وأعلنت استقلالها متحالفة مع النازيين على الفور والف انتي بافلتيش الذي أعاده الألمان من منفاه حكومة متعاونة كلياً مع الألمان. وهكذا راحت المناطق اليوغوسلافية تتساقط تحت اغراء التحالف مع النازيين. وما أن حل يوم 23 حزيران يونيو حتى كان هتلر قد نجح تماماً في تفكيك الاتحاد اليوغوسلافي. وساعده على ذلك انضمام الغالبية الساحقة من الكرواتيين والسلوفينيين إليه. لكن الزعيم المؤيد للملكية درازا ميهايلوفيتش والزعيم الشيوعي جوزيف بروز تيتو لم يعترفا بالهزيمة، بل سارعا الى تشكيل وحدات انصار غايتها متابعة النضال ضد النازيين وضد مشاريع هتلر. الا ان تلك حكاية أخرى، إذ في تلك الأيام كان البلقان كله قد استسلم للنازيين، وفيما كان الإنكليز ينسحبون، كان هتلر يعتبر نفسه سيد المنطقة من دون منازع.