مع الأيام الأولى للثورة في ايران، كان البحث عن كادرات اسلامية تلبي احتياجات مؤسسات الجمهورية الوليدة، يجري في كل المدن والقرى والحوزات الدينية بإلحاح شديد. وكان أحد أبرز صيادي الرؤوس - حسب التعبير الغربي - الشيخ محمد حسين منتظري الذي عُرف حتى مقتله باسم "رنغو". في تلك الفترة، حيث كان الاعلام يشكل عقدة اخيل بالنسبة للجمهورية وللثورة معاً، دخل الشيخ محمد منتظري الى مبنى الاذاعة والتلفزيون ليختار الرجالات المرغوبين، وكان أحدهم شاباً معمماً في الخامسة والعشرين من عمره اسمه: غلام حسين كرباستشي. المنصب الأول الذي تولاه القادم الجديد كان متابعة الأفلام والبرامج الترفيهية، والتي كان مقياس ضبطها يتم عبر مراقبة دقيقة من كل المسؤولين والقيادات. ولم تمض أيام معدودة على هذا القادم الجديد، حتى لاحظ العاملون في مبنى الاذاعة والتلفزيون انه خلع العمامة وارتدى زياً مدنياً. وكان جوابه الوحيد لمسؤول مدني كبير في المبنى، انه فعل ذلك ليكون "على اتصال وتفاهم أفضل مع العاملين ومع مضمون المهمة". وفي أقل من عام واحد صعد غلام حسين كرباستشي السلم بسرعة ليصبح مديراً عاماً للبرامج مبرهناً بذلك على كفاءاته. غلام حسين كرباستشي، من عائلة متدينة، والده رجل دين معروف في احدى ضواحي أصفهان البعيدة، والتي رغم بعدها تقع الى جانب قرية نجف أباد قرية آية الله العظمى حسين علي منتظري والد الشيخ محمد منتظري. ومثل أبناء العائلات الدينية، بدأ غلام حسين كرباستشي دراسته في الحوزة الدينية في مدينة قم حيث يقيم فيها والده وحيث ولد هو فيها. وبعد ان أكمل دراسته الأولى، عام 1972، وحاز على ثانوية فنية انتقل عام 1974 الى طهران ليدرس في جامعتها في قسم الرياضيات. وخلال أيام الدراسة تلك، نشط كرباستشي، فدفع الثمن بدخوله سجن الشاه عام 1978 وبقي فيه حتى الثورة، حيث أطلق سراحه. نجاح غلام حسين كرباستشي في الاذاعة والتلفزيون، سلّط عليه الأضواء، فانتقل الى الادارة 1981 ليصبح الوالي على مدينة أصفهان، التي لها أسمان: مدينة الرجال، و"نصف العالم" أصفهان نصف جيهان. ولكن رغم صغر سنه أقل من ثلاثين عاماً نجح أيضاً في القفز فوق كل القوى والتكتلات والاعتبارات العائلية، ليدير المدينة باقتدار، الى درجة انه غيّر الكثير من معالمها ومظاهرها. واعتمد كرباستشي في كل ذلك على صيغة قد لا تنشأ إلا في حالة مثل حالة ايران بعد الثورة. فقد فرض ضرائب جانبية على المستثمرين، خصوصاً في قطاع البناء. وقد اختصر احد الايرانيين هذه الطريقة بالقول ان غلام كرباستشي شرّع "البخشيش"، لكن بدلاً من ان يذهب الى جيوب الوسطاء، ضخه في صناديق البلدية ليستثمره في المدينة. ثماني سنوات في أصفهان، كانت كافية للوالي كرباستشي، لينتقل الى طهران عام 1989. وفي تلك السنوات التي مضت، كان كرباستشي قد اختار التزامه السياسي، وهو وسط اليمين الذي يتزعمه "حصن" الثورة والدولة الرئيس هاشمي رفسنجاني. ومجرد تسميته عمدة لطهران فان غلام كرباستشي، أصبح برتبة وزير يحضر جلسات مجلس الوزراء. فطهران ليست مدينة عادية اذ يعد سكانها عشرة ملايين، تمتد على مساحة شاسعة تجعل طول الطريق الرئيسي فيها خيابان ولي عصر حوالى 40 كلم. وهي في بدايات الثورة غرقت في الفوضى على جميع الأصعدة، بما فيها اجتياح القادمين الجدد من الأرياف باسم الثورة، ويكفي ان الأبنية أقيمت فيها بشكل عشوائي في أراضي الدولة وفي أملاك الغير الخ… وكان على كرباستشي ان يفرض أولاً اعادة تأهيل المدينة، من دون ان يسقط تحت ضربات مختلف القوى المستفيدة من هذه الفوضى. وقد فعل ذلك بحزم ودراية معتمداً على "الحصن" الكبير الرئيس رفسنجاني الذي حماه وغطّاه كلياً. بعد ذلك أعاد تجربته في أصفهان وطورها خصوصاً وان التجاوزات هناك كانت أكبر وأهم. وعلى طريقة قرار "طابق المر" في لبنان دفع رسم مصالحة على التجاوز في بناء طابق من دون رخصة فرض رسوماً واقتطاعات على المباني المخالفة فقفز بميزانية بلدية طهران من ستة بلايين تومان الى 120 بليوناً كل دولار يساوي 400 تومان، واستناداً الى أرقام رسمية فإن البلدية نجحت خلال عقد من الزمن في بناء مئتي كلم من الطرقات السريعة حول طهران وداخلها، و18 هكتاراً من الحدائق، وعشرين مركزاً ثقافياً و15 صالة عرض الخ. والأهم من ذلك انه أبعد سوق الخضار بالجملة الى خارج العاصمة وأخرج كل المصانع الصغيرة من داخلها الى أمكنة بعيدة عنها، عبر سياسة قطع المياه والكهرباء عنها بحجج مختلفة لاجبار المتنفذين على الرضوخ. ولا شك في ان طهران التي تعاني التلوث بنسبة كبيرة شهدت انخفاضاً في نسبة هذا التلوث، نتيجة لبناء الحدائق، مهما كانت مساحتها ضئيلة، وهكذا شاعت نكتة في العاصمة تقول: "اذا رأيت قطعة نقدية في الطريق، لا تسارع الى التقاطها، لأن البلدية ستكون أسرع منك وتضع على ظهرك وعاءً من الورد". ولم يكتف كرباستشي بهذا النشاط الداخلي، بل اتجه الى حقل الاعلام، ليدعم "رئيسه وحصنه" رفسنجاني، فأسس جريدة بالألوان هي "همشهري" ابن البلد، التي سرعان ما أصبحت في عداد الصحف الأولى. ومع الانفتاح المعلوماتي الكبير، دخل على "الانترنت" ليصبح له موقع يخدم به الخط الجديد الذي بدأه الرئيس محمد خاتمي. وكان هاشمي رفسنجاني، اللاعب الكبير في السياسة الايرانية، والعارف الدقيق بتفاصيل تضاريس الخريطة السياسية، أدرك قبل فترة من انتهاء رئاسته، انه خسر اليسار الراديكالي عندما ساهم بضربه ولم يربح المحافظين المتشددين. هكذا اتجه لانشاء تكتله السياسي، من دون ان يكون في الواجهة، فولد تجمع "كوادر البناء" الذي تشكلت قيادته من "رجاله"، وفي مقدمهم كرباستشي وعطاء الله مهاجراني وزير الاعلام وشقيقه محمد رفسنجاني وغيرهم. واذا كان عناصر "كوادر البناء" قد بدأوا طامحين لخلافة رفسنجاني مباشرة في الرئاسة، كان ظهور محمد خاتمي وادراكهم السريع بالتحول الشعبي دفعاهم الى التحالف معه. وبذلك أصبح رجال رفسنجاني، "مفاتيح" الحملة الانتخابية لخاتمي. ومن الطبيعي ان كرباستشي الذي يعرف التفاصيل الدقيقة لطهران وأصفهان، وله في كل زاوية منها دَين يستطيع المطالبة بتسديده خلال هذه الحملة، فإنه أصبح "المفتاح" الأول للحملة. وعندما نجح خاتمي كان لا بد له ان يحتل موقعاً متقدماً، لكن سرعان ما أخرج المحافظون سجلاتهم، واتهموه بپ"الفساد" ليحرجوا خاتمي، ويخرجوا كرباستشي. لذلك بقي الرجل في حصنه في بلدية طهران، وفي الوقت نفسه ظل قريباً من خاتمي ورفسنجاني، فشكلا بذلك أفضل "حصان" يصل ما بين "الحصن" و"الوزير" على رقعة الشطرنج الايرانية. غلام حسين كرباستشي، المتكتم والحذر، وصاحب الابتسامة الخفيفة التي تنم عن ثقته بنفسه، وكلامه المباشر الذي لا يحمل تأويلاً وتفسيراً ويتضمن فعل الأمر والمباشرة بالتنفيذ، حدد فهمه للتحولات خلال السنة الأخيرة بتأكيده ان المحافظين هم الذين ابتعدوا عن الكوادر، أي عن رفسنجاني وليس العكس، وان انتصار خاتمي هو "انتصار للعقلانية" وهذا يعني في عرفه: "انتصار منطق التنمية والبناء المتوازن"، وهذا تطوير لنهج رفسنجاني نفسه في العمل باتجاه التنمية الاجتماعية. "اعادة قوى الضغط الى توازنها الطبيعي"، والمقصود بذلك قوى اليمين من بازار وأنصار "حزب الله"… "التقدم باتجاه المزيد من الواقعية لأن احدى سمات السياسة الخارجية الايجابية هي الواقعية". اما القاء القبض على غلام حسين كرباستشي، في هذا الوقت فشكّل ضربة مزدوجة لرفسنجاني وخاتمي بحيث يصار الى الغاء الأول وتقييد الثاني وتهميشه. والمحافظون بذلك، فتحوا الباب أمام معركة واسعة، يكفي لاختصارها بالكاريكاتور الذي ظهر في الصفحة الأولى من صحيفة "جامعة" المجتمع. فقد رُسم كرباستشي وقد كتب على صدره رقمه وهو 2/3/1376 أي تاريخ انتخاب خاتمي بالتقويم الشمسي 23/5/1997، مما يعني ان جمهورية خاتمي هي التي أريد اعتقالها. واذا ما أضيف الى ذلك ان كرباستشي يملك ملفات كثيرة تتعلق كما أكد مرة باقتسام المحافظين في ظل ناطق نوري رئيس المجلس آلاف قطع الأراضي في طهران في ما بينهم، فإن معنى ذلك ان "الحرب" ستكون شاملة وعلى كل الجبهات وهي تضع مختلف القوى قبل انتهاء السنة الأولى من عهد خاتمي أمام استحقاقات تتعلق بمستقبل الجمهورية ونهجها للعقد المقبل. وربما لأن حجم الخطوة كبير وخطير الى هذا الحد، تم اطلاق سراح سجين إيفين.