منذ خمسين عاماً غادر الشيخ إسلام توفيق موطنه، ألبانيا متجهاً إلى القاهرة لتلقي العلم في الأزهر. لكنه مكث فيها بعدما احتوته "أم الدنيا" وصار مصرياً وأباً وجداً لمصريين، بل وترقى وظيفياً إلى أن أصبح مستشاراً لوزير الاوقاف المصري حتى إحالته على التقاعد قبل سنوات قليلة. والشيخ اسلام توفيق مثل كثير من مواطنيه الذين اضطرتهم ظروف مختلفة للسفر الى مصر، وعاشوا بين أهلها، لم يفارقه الحنين إلى بلده الأم. ويشكل هؤلاء في مجموعهم جالية فريدة من نوعها، مقارنة بعشرات الجاليات الأجنبية التي اتخذت من مصر مستقراً ومقاماً. "ربما يصل عددهم الى حوالى 200 ألف شخص" يقول عمر بكداش رجل الاعمال المصري الجنسية الالباني الأصل. والتقدير يحتاج بالطبع الى تدقيق، لكن الشاب اليافع الذي لقنته والدته الألبانية كل شيء عن أرض أجداده يعتقد بقوة في صحة تقديره. وقال لپ"الحياة": "غالبية أصحاب البشرة البيضاء في ريف مصر هم من أصل ألباني". وهم كثر فعلاً، وتحديداً في الدلتا وبعض المناطق الزراعية في جنوب مصر، إذ يسهل تمييزهم على الفور عن بقية السكان من ذوي البشرة السمراء. وعملت غالبية اجدادهم نظاراً لممتلكات الباشوات والأثرياء قبل ثورة يوليو. وهم لأمانتهم وصرامتهم ثم لأصلهم المختلف، سيطروا على وظائف من هذا النوع الذي يخضع فيه المصريون لإشراف الألباني الأصل ورقابته من أجل ضمان حُسن سير العمل ولمنع حدوث تحالف أو تعاطف بين الفلاحين وناظر العزبة اذا كان مصرياً، ما قد يضر بمصالح كبار الملاّك حسبما كانوا يعتقدون. لذلك كان الألبان مثاليين تماماً في هذه الوظائف. واحترف آخرون التجارة وبرعوا فيها وجنوا من ورائها أرباحاً طائلة، وأحدهم لا يزال اسمه حتى الآن على أضخم سلسلة متاجر من نوعها في مصر، إنه "عمر أفندي"، الذي شرع في تأسيس امبراطوريته التجارية العام 1870، وكانت نهايتها على يد أحد ابنائه الذي باع المتاجر بالاسم لأسرة اورزدباك اليهودية، في بدايات القرن العشرين. وفي هذه الصفقة لعب الزعيم الوطني المحامي محمد فريد دوراً بارزاً ضماناً لمصالح موكله ابن عمر افندي ارناؤوطي. والعائلة "ارناؤوط" ما زالت في مصر الى الآن، وساهم وضع مصر كواحدة من ولايات الدولة العثمانية كثيراً، قبل سيطرة الانكليز على مقاليد الأمور، في تيسير حركة الألبان بين بلدهم والقاهرة. وأدى ذلك الى موجات هجرة متتابعة من البانيا وكوسوفو الى مصر أولاها أواخر القرن الثامن عشر، لكنها كانت محدودة جداً، وآخرها كان بين افرادها الملك أحمد زوغو و200 من حاشيته الذين وصلوا الى الاسكندرية بعد سيطرة الشيوعيين على الوضع في البانيا، ولا زال ابناء شقيقه مقيمين في المدينة الساحلية الجميلة. أما أضخم الهجرات فكانت في بداية القرن التاسع عشر عندما وصل الضابط الالباني محمد علي بفرقة قوامها خمسة آلاف جندي الى مصر تنفيذاً لأوامر الباب العالي، واعقبت سيطرته على مقاليد الأمور، موجة هجرة جديدة من أقارب الجنود الذين نزحوا للعيش مع ابنائهم وأزواجهم. عندئذ بدأت عملية انصهار تدريجي بين الألبان المهاجرين والجند في نسيج المجتمع المصري. ومع اندلاع حرب البلقان في العشرينات، شهدت مصر موجة هجرة جديدة من الألبان الذين قرروا البحث عن حياة أفضل خارج الوطن ولم يكن أمامهم مكان أفضل من مصر. ويقول بكداش 32 عاماً وهو يملك متجراً لبيع إحدى الماركات الشهيرة للملابس الجاهزة وسط القاهرة: كان جدي ضمن تلك الموجة، فبعد تجارة رائجة لاستيراد الحبوب والقطن بين مصر وألبانيا وتصديرها، قرر البقاء والاستقرار في مصر، "بحثاً عن مزيد من الأمن والأرباح". ومثل الشيخ إسلام، جاء آخرون كثيرون طلباً للعلم في الأزهر الذي ظل حتى بدايات الاربعينات يستقبل سنوياً أعداداً كبيرة من المبعوثين الألبان، كان الواحد منهم يقبض راتباً شهرياً جنيهين كاملين يكفلان له في ذلك الحين حياة كريمة. والمفارقة الغريبة أن غالبية الألبان المصريين، بينهم الشيخ إسلام توفيق، لم تخطط أبداً للبقاء في مصر، غير أن ظروف الحرب العالمية الثانية واستيلاء الشيوعيين على الحكم في ألبانيا اجبرتهم على الاستقرار فيها، خوفاً من العودة والوقوع في أسر نظام الحكم الشيوعي المتسلط، وحصلت غالبيتهم على الجنسية المصرية. لكن البعض كالسيد كريم حاجيو، احتفظ بجنسيته الألبانية في الوقت نفسه ويعمل مديراً لمصنع معكرونة في حي "بين الصورين" وسط القاهرة مذ اضطرته الظروف إلى الانقطاع عن الدراسة في الأزهر والعمل في المصنع الذي كان يملكه يوناني مهاجر. ويقول حاجيو 77 عاماً لپ"الحياة" بعربية مكسرة: "عملت في البداية من أجل الانفاق على زملائي في الأزهر الذين جاؤوا معي من ألبانيا، ومن ساعتها لم أترك المصنع". ويتحدث ابنه إيلير وابنته دوراتة العربية بلهجة عامية مصرية صافية أفضل منه. فهما ولدا وتربيا في مصر، ولا يزال الابن يتابع عن طريق والده نتائج فريق الاسماعيلي المصري لكرة القدم، الذي كان يشجعه بجنون قبل هجرته الى الولاياتالمتحدة. بطبيعة الحال توقف تدفق الطلاب الألبان على الأزهر مع سيطرة الشيوعيين على الحكم في تيرانا. لكنهم بدأوا مرة أخرى يظهرون في قاعات الدرس في الجامعة العريقة وتحديداً منذ ثلاث سنوات. يقول ممثل المشيخة الاسلامية في جمهورية البانيا في القاهرة بكر اسماعيل لپ"الحياة": يقدم الازهر 25 منحة سنوية للألبان وخمس منح لابناء كوسوفو وخمساً لمسلمي مقدونيا، ويأتي آخرون على نفقتهم الخاصة أو بتمويل من هيئات إسلامية أخرى، ويبلغ اجمالي عددهم في الموسم الدراسي الحالي 56 طالباً. ويتوقع بكر تزايد الاقبال على المنح الأزهرية خلال الاعوام القليلة المقبلة في ظل اتجاه عام للجامعة الى تقديم المزيد من الفرص لطلاب البانيا وكوسوفو ومقدونيا لتعويض ما فات. وعلى النقيض من الجيل القديم من المبعوثين، يعود ابناء الجيل الجديد فور انتهاء دراستهم الجامعية الى الوطن. فلا شيء يمنعهم من العودة، بما في ذلك تدهور الظروف السياسية والاقتصادية سواء كان في كوسوفو أو البانيا نفسها. وكانت مصر شهدت اعتباراً من النصف الثاني من الخمسينات والستينات موجة هجرة معاكسة للألبان، إذ أخذ عدد كبير منهم يغادرها، ليس الى الوطن وإنما إلى الولاياتالمتحدة وكندا واستراليا، فالعلاقة بين ضباط ثورة يوليو والألبان عموماً لم تكن جيدة على الاطلاق ليس لأن الاسرة المالكة المصرية التي أقصتها الثورة عن الحكم هي من أصل ألباني فحسب، بل أيضاً لأن الألبان كان لهم وجود حيوي في معظم دوائر السلطة الملكية. فالحرس الملكي المصري المعروف باسم "الحرس الحديد" ضباطه وجنوده من الألبان، وشاعت عنهم سمعة سيئة للغاية وأُُلصقت بهم ممارسات إجرامية، يقال أنهم اقترفوها دفاعاً عن الملك فاروق. كان الألبان موجودين أيضاً بكثرة داخل القصور الملكية، وانتشرت الوصيفات الالبانيات في مختلف سرايات أسرة محمد علي. لذلك كان العداء طبيعياً بين الثورة المصرية والألبان. ولم يكن القرار الصادر في بداية الستينات باغلاق "التكية البكتشية" التي كانت مقراً لطريقة صوفية ألبانية ومركزاً لتجمع الألبان المصريين إلا واحداً من مؤشرات كثيرة تؤكد عدم ارتياح الثورة الى ذوي الاصول الألبانية على رغم تأكيد السلطات نفسها أن اغلاق التكية كان بغرض اقامة وحدة عسكرية في موقعها الاستراتيجي فوق قلعة صلاح الدين في القاهرة. المفارقة ان خالد محيي الدين، أحد كبار ضباط ثورة يوليو رئيس حزب التجمع اليساري المصري هو من أصول ألبانية من ناحية والدته، كما يؤكد كريم حاجيو. وإن صح ذلك، فإن محيي الدين ليس المصري البارز الوحيد الذي له أصول البانية، فهناك الشاعر الراحل أحمد رامي والممثل أحمد مظهر والفنانة ليلى فوزي وآخرون يعملون حالياً في السلك الديبلوماسي ووزارة الداخلية. وتبدو الاتصالات بين من بقي على قيد الحياة من الالبان المصريين أو بين احفادهم، ضعيفة وباهتة لعدم وجود مراكز لتجمعاتهم، كما أن صلاتهم بالوطن الأول ضعفت جداً إن لم تكن انقطعت تماماً. غير أن بكداش وحده اختار أقصر الطرق للاحتفاظ بالروابط الحميمة مع موطن الاجداد، إذ تزوج شابة ألبانية تعرف اليها عندما زار تيرانا قبل أربع سنوات. ويؤكد بكداش أنه سيحكي لولديه منها، آية وعمر، قصة الأجداد في البانيا ومصر "كما فعلت والدتي الالبانية معي".