تعتبر المؤسسات الاقتصادية والعلمية من أهم المؤسسات في المجتمع، إذ تشكل بحكم ديناميكيتها المحرك الأساسي لتطوير القطاعات الاقتصادية وتحديثها. ويرتبط أداء هذه المؤسسات بوجود علاقات ثقة وتعاون قوية بين القائمين على شؤونها والعاملين فيها، خصوصاً أصحاب الكفاءة والخبرة منهم. فهؤلاء يشكلون بحكم طاقاتهم الابداعية العنصر الحاسم في عمليات البحث والتطوير والتجديد. وكلما قويت هذه العلاقات تمكنت المؤسسات من حل مشاكلها والتغلب على التحديات التي تواجهها بسرعة أكبر وتكاليف أقل. ومن الأمثلة الجيدة التي يمكن ذكرها في هذا المجال العلاقات القائمة بين المديرين والعاملين في المؤسسات الاقتصادية اليابانية، والتي وصلت الى درجة ان المدير غالباً ما يعرف عن عماله وموظفيه أكثر مما يعرفه أفراد عائلاتهم عنهم. ويعكس هذا الأمر الثقة القوية للعمال بمديريهم، كما يعكس مدى اهتمام المديرين بشؤون عمالهم وشجونهم مع ما ينطوي علىه ذلك من أعباء اضافية عليهم. ويأتي ذلك كله وسط ظروف عمل مادية ومعنوية جيدة للعاملين. وتجعل تقاليد كهذه العمال والموظفين يتفانون في عملهم لزيادة انتاجية مؤسساتهم الى أقصى الحدود الممكنة. فالمؤسسة بالنسبة الى هؤلاء ليست المكان الذي تتم فيه رعاية شؤونهم الوظيفية فحسب وانما شؤونهم الاجتماعية الخاصة ايضاً. وعليه فإنها توفر لهم عناصر أمان متكاملة ضد أخطار المستقبل المتعلقة بالعمل والسكن والصحة وغيرها. ويشكل ذلك حافزاً اضافياً لهم لمتابعة تأهيل انفسهم من جهة وتعليم وتأهيل ابنائهم عمال وموظفي وخبراء المستقبل من جهة أخرى. وفي حالات كثيرة يتم اعداد هؤلاء للعمل في المؤسسات نفسها التي عمل فيها آباؤهم وأجدادهم. ويرى كثير من المتخصصين في الادارة ان العلاقة القوية التي تشمل ايضاً الجانب الاجتماعي بين المديرين والعاملين تعتبر من أهم العناصر التي ساهمت في انجاح التجربة اليابانية في ادارة المؤسسات الاقتصادية وزيادة انتاجيتها. المؤسسات العربية ربما يكون مستوى علاقة القائمين على المؤسسات الاقتصادية والعلمية العربية بعمالهم وموظفيهم من أدنى المستويات في العالم. ويعود ذلك أساساً الى ان الرؤساء يتعاملون في غالب الأحيان مع مرؤوسيهم العرب بمن فيهم أصحاب الكفاءات والطاقات الابداعية بشكل دوني، فيما يتعاملون مع موظفيهم وعمالهم غير العرب خصوصاً الأميركيين والأوروبيين منهم بأساليب تنطوي على المبالغة في الاحترام والتقدير وكيل المكافآت… الخ. ويعكس ذلك، على سبيل المثال، في الامتيازات المادية والمعنوية الاضافية التي تمنح لهؤلاء حتى في الحالات التي يقومون فيها بالأعمال نفسها التي يقوم بها زملاؤهم العرب. ولا يتم التفريق في هذا الخصوص بين العمال العاديين او المهرة او أصحاب الاختصاص وغيرهم. إذ روى لي خبير عربي في مجال الجيوفيزياء يحمل الجنسية الالمانية، انه كان يعمل في احدى الدول العربية مع احدى الشركات المحلية هناك. وبعد فترة من استلامه لمهامه تبين له ان زملاءه الأميركيين والأوروبيين يتقاضون ضعف ما يتقاضاه هو وزملاؤه من العرب الآخرين، مع انهم يقدمون الخدمات نفسها التي يقدمها أولئك. ولا تقتصر هذه الطريقة في التعامل على الشركات والمؤسسات العربية داخل بلداننا العربية وانما ايضاً على غالبية هذه الشركات والمؤسسات في الخارج. ويؤدي هذا الأسلوب في التعامل الى ترك أصحاب الكفاءات والطاقات الابداعية العرب مؤسساتهم والهجرة الى الولاياتالمتحدة وأوروبا وكندا واستراليا حيث يجدون ظروف عمل وعيش أفضل. وينعكس ذلك بشكل سلبي على أداء المؤسسات الاقتصادية والعلمية العربية. إذ تعاني غالبيتها من الجمود او البطء الشديد في عمليتي التطوير والحديث. كما ان روح الابداع في هذه المؤسسات تعاني من الضعف الشديد بالمقارنة مع مثيلتها في أوروبا والولاياتالمتحدة. ففي الوقت الذي لا يتجاوز عدد براءات الاختراع التي تسجلها أفضل الجامعات العربية عدد أصابع اليد او اليدين سنوياً في غالب الأحيان، فإن مثل هذا العدد يتجاوز المئة في احدى الجامعات الأوروبية المتوسطة المستوى كجامعة درسدن في شرق المانيا مثلاً. وفي الحالات التي تتم فيها عملية التطوير والتحديث في المؤسسات العربية فإنها تجري بشكل متقطع وغير متواصل نتيجة للأكلاف العالية بسبب اعتمادها على الخبرات الأجنبية في ذلك. ومما يبعث على الأسى ان ذلك يتم في وقت يتزايد اعتماد الشركات والمؤسسات الاقتصادية والأوروبية والأميركية على الخبرات والكفاءات العربية والأجنبية الأخرى، وتتعامل معها بالمعايير نفسها التي تتعامل بها مع الكفاءات المحلية. هجرة الكفاءات ويدفع توافر ظروف عمل أفضل للكفاءات العربية خارج بلدانها الى هجرة المزيد منها. وبذلك فإن عملية افراغ المؤسسات الاقتصادية والعلمية العربية وحرمانها من الطاقات الابداعية مستمرة دون توقف. وقد صدف ان زرت قبل عامين احدى كليات الهندسة في احدى الجامعات العربية العريقة، ففوجئت بأن العدد الأكبر من أفضل اعضاء هيئتها التدريسية غادر الى كنداوالولاياتالمتحدة فيما يعد الباقين العدة للحاق بزملائهم. ومما يدل على تزايد هجرة الكفاءات تجاوز عدد المهندسين والأطباء وأصحاب الاختصاص الآخرين من العرب حدود الخمسة آلاف في المانيا. وإذا كان مثل هذا العدد موجوداً في بلد لم يكن فيه للعرب حتى وقت قريب حضور يذكر، فكيف باعداد هؤلاء في بلدان كالولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا وغيرها؟ وعلى رغم التحسن الجوهري الذي طرأ على صعيد تطور الكفاءات وطاقات الابداع في البلدان العربية فإن القائمين على شؤون المؤسسات المختلفة هناك يبالغون في حصر طاقات الابداع والتطوير بالأوروبيين والأميركيين واليابانيين ويبخسون طاقات الابداع العربية حقها. وما دام الأمر كذلك فإن غالبية المؤسسات العربية ستبقى من النوع الملقد أكثر من النوع المبدع والمجدد. ويتسبب هذا الوضع في ضعف تدفق الاستثمارات لأن المستثمرين يفضلون الاستثمار في مؤسسات مستقرة وذات قدرة على الطوير والتحديث. وفي ظل ذلك فإن اقتصادات البلدان العربية ستبقى تعاني من ضعف الاداء على صعيد استغلال الطاقات والموارد المتاحة بصورة أكثر عقلانية. خلاصة يرتبط تحسين مناخ الاستثمار إذاً برفع كفاءة المؤسسة الاقتصادية العربية والعلمية وادائها على صعيد عمليتي التطوير والتحديث. ومن جملة ما يتطلبه ذلك بناء علاقات ثقة بين الادارة والعاملين من خلال تحسين علاقة هؤلاء باداراتهم وتأمين ظروف العيش والعمل اللائق بهم، ومما ينطوي عليه ذلك من الحفاظ على الكفاءات الوطنية وتشجيع روح الابداع لديها. ولكي يتحقق هذا الأمر فإنه لا بد من التوقف الفوري عن معاملتهم بدونية، وتغيير أسلوب الادارة المتبع، وتناسب المردود المادي مع الجهد والخبرة والكفاءة، وتجهيز أمكنة العمل من مختبرات ومكتبات وغيرها بالمستلزمات الضرورية للبحث والتطوير. وحان الوقت لمعاملة العاملين والكفاءات العربية بالمعايير نفسها التي تُعامل بها الأيدي العاملة والكفاءات الأوروبية والأميركية. وفي حال عدم القيام بذلك فإن نزيف العقول العربية من خلال الهجرة سيستمر. وعلى صعيد أسلوب الادارة المتبع في الغالبية الساحقة من المؤسسات الاقتصادية والعلمية العربية فإن هذا الأسلوب لا يزال يتمثل في هيمنة المديرين وأرباب العمل على كل شاردة وواردة. وفي أكثر الأحيان يتصرف هؤلاء مع أصحاب الكفاءات بعقلية تسلطية، فلا يشركونهم في اتخاذ القرارات وكأن المؤسسة مزرعة عائلية خاصة بهم. وقد فاتهم في ذلك ان مثل هذه الطرق لم تعد تجد نفعاً على صعيد ادارة وتطوير المؤسسات الحديثة. فالادارة ذات الأداء الفعال تستلزم اشراك العاملين في مختلف أنشطة المؤسسة. ويتم ذلك على أساس تنظيمهم في مجموعات او اقسام وفروع ذات صلاحيات واسعة في مجالات الانتاج والبحث وغير ذلك. وهنا فإن أصحاب الكفاءات والطاقات الابداعية يلعبون الدور الأكثر فاعلية على صعيد اتخاذ القرارات في المكان والزمان المناسبين. التنمية البشرية وفي ما يتعلق بأمكنة العمل فإنه ينبغي التوقف عن صرف المبالغ الطائلة على اقامة المنشآت البيتونية المختلفة والمبالغ في ضخامتها، وينبغي تحويل قسم مهم من هذه المصاريف على تجهيز المختبرات والمكتبات وقاعات التدريب العملي والأهم من ذلك على الكفاءات البشرية. فالاستثمار في هذه الكفاءات أهم من الاستثمار على الأبنية والمكاتب الوجاهية. وكم من دولة عربية شيدت خلال العقدين الماضيين العديد من هذه الأبنية من دون ان تستطيع حتى الآن استثمارها بالكامل. ومن جهة أخرى، فإن تناسب المردود المادي مع الجهد المبذول ومع النتيجة التي يتم التوصل الىها أصبح يلعب الدور الأهم على صعيد زيادة حافز أصحاب الكفاءات على الابداع والتطوير. وعلى العكس من ذلك فإن غياب مثل هذا التناسب يحول أنشطة هؤلاء الى أعمال روتينية تشبه عمل المعدات والأجهزة التي يتعاملون معها. ان رفع أداء المؤسسات الاقتصادية والعلمية العربية لن يتم من دون الاعتماد بشكل أساسي على الكفاءات والخبرات والأيدي العاملة العربية. فتطوير المؤسسات الأميركية واليابانية او الأوروبية اعتمد بالدرجة الأولى على الخبرات والأيدي العاملة المحلية هناك. اما الخبرات الأجنبية فإنها تلعب دوراً مساعداً وأحياناً بالغ الأهمية في هذا الخصوص. وهذه حقيقة يجب ادراكها بالنسبة لبلداننا. فاعتمادنا بشكل متزايد على الخبرات الوطنية يجب ان يتزامن مع استمرارنا في الاعتماد على الخبرات الأجنبية ولكن فقط في الحالات التي لا يمكن ايجاد بدائل لهذه الخبرات عربياً.