تلعب عناصر مثل تحديث البنية التحتية وتأمين الاطر الحقوقية والتنظيمية وتحسين أداء المؤسسات المصرفية والمالية دوراً مهماً على صعيد تحسين مناخ الاستثمار. غير ان جعل المناخ المذكور اكثر جاذبية في بلد ما يتطلب اضافة الى ذلك توافر ما يسمى بقطاع او شريحة من المجددين Innovators Sector ذو تنظيم عالي المستوى. وينبغي لعناصر القطاع المذكور ان يكونوا المحرك الاساسي لغالبية الانشطة الاقتصادية والاجتماعية. ويشكل المدراء ورجال الاعمال الذين تستهويهم عناصر التجديد والمبادرة والابداع والمغامرة أهم عناصر هذا القطاع. ومن مميزات هؤلاء قدرتهم على استلهام أفق تحديث وتطوير الانشطة المذكورة في شكل مستمر وفي الوقت المناسب. ومن خلال ترجمتهم لذلك تراهم يقومون في كل مرحلة بتطوير اساليب وطرق جديدة في الادارة اكثر فعالية والانتاج اكثر كمية وأفضل نوعية. ويمكن تشبيه دور كل من أفراد قطاع المجددين في مؤسسته بدور ملكة النحل في خليتها. فالملكة المذكورة تقوم بتنظيم وحشد طاقات خليتها لانتاج افضل ما يمكن انتاجه العسل من العناصر المدخلة في الانتاج من رحيق ازهار النباتات وغيرها. وكذلك الامر بالنسبة للمدير او رجل الاعمال من قطاع المجددين فان لديه القدرة على حشد الطاقات المادية والبشرية لانتاج سلع أو تقديم خدمات يتم تحسينها النوعي والكمي باستمرار. البلدان العربية وقطاع المجددين ان الحديث عن وجود قطاع منظم من المجددين في البلدان العربية على غرار ما هو عليه الحال في الدول الصناعية المتقدمة ما يزال سابقاً لأوانه. ففي غالبية هذه البلدان ما يزال هذا القطاع في طور التشكل والتأسيس. ويبدو هذا القطاع اكثر وضوحاً في بلدان كلبنان وتونس والمغرب والامارات العربية المتحدة والسعودية ومصر وسورية، اذ استطاع عدد من عناصر هذا القطاع، من رجال الاعمال العرب، اثبات جدارته في مجال الاعمال على الصعيدين العربي والعالمي. لكن الغالبية الباقية من رجال الاعمال العرب لم تستطع حتى الآن توسيع مجال انشطتها على هذين الصعيدين بسبب عدم تقديرها لاهمية التوسع بنقل التكنولوجيا وتبادل المعرفة والخبرات. وتكتفي هذه الغالبية بمؤسسات صغيرة يغلب عليها الطابع العائلي من ناحيتي الادارة والملكية. كما انها نادراً ما تهتم بتطوير عنصر النوعية بما فيه الكفاية. ويعكس هذا الامر الى حد كبير ضعف روح المبادرة على اصعدة مثل استكشاف حاجات السوق المتجددة. والقيام بمشاريع ينطوي النشاط فيها على عنصري التجديد والمغامرة من جهة وعلى توافر درجة عالية من التنظيم من جهة اخرى. وبدلاً من القيام بذلك فان غالبية رجال الاعمال في البلدان العربية يقومون بتقليد بعضهم بعضاً على صعيدي الانتاج وتقديم الخدمات. وعلى سبيل المثال فان مجرد سماعهم بأن زميلاً لهم تمكن من اقامة مؤسسة اقتصادية ناجحة تراهم يبادرون بالعشرات الى انشاء عشرات المؤسسات المشابهة في شكل ارتجالي ومن دون درس الجدوى الاقتصادية لتلك المشاريع. وهذا وضع يؤدي الى تشكيل فوائض من سلعة او خدمة معينة مقابل حدوث نقص من سلع وخدمات اخرى. ولأن هذه الفوائض لا تجد في الغالب اسواقاً لتصريفها فان الافلاس يكون من نصيب الكثير من المؤسسات التي تنتج هذه السلع او تقدم تلك الخدمات. وهكذا تتكرر مثل هذه الحالات التي يتم من خلالها هدر الاموال وإعاقة تطور قطاع المجددين كماً ونوعاً والمفترض ان يشمل مختلف الانشطة الاقتصادية والاجتماعية. الهدر والتبذير من قبل اصحاب الثروات ومن الأسباب التي تعيق تطور قطاع المجددين ايضاً كيفية التصرف بالثروات المادية المتوافرة في بلداننا العربية. فالقسم الاكبر من اصحاب هذه الثروات في البلدان المذكورة لا يفكرون كنظرائهم في اليابان وشرق آسيا او اوروبا وشمال اميركا باستثمار ثرواتهم في اقامة المزارع وإنشاء المصانع التي يمكن ان تدر عليهم مزيداً من الثروة وتقوم في الوقت نفسه بتشغيل الايدي الماهرة والمبدعة من الفنيين والمهندسين، بل على العكس من ذلك يقومون بهدر قسم هام منها في مجالات مثل تشييد العقارات السكنية المختلفة لا سيما القصور منها. وهناك مناطق فيها عشرات من تلك القصور بينما لا يوجد فيها مزرعة نموذجية او مصنعاً لاستيعاب قسم من الايدي العاملة المحلية العاطلة عن العمل. وهناك قسم هام من الثروات يتم هدره وتبذيره في مجالات اخرى مثل اقتناء الذهب والاشياء الثمينة الاخرى بكميات كبيرة ومبالغ فيها، اضافة الى ظاهرة هدر الملايين من الدولارات الاميركية على اقامة الولائم والحفلات بتكاليف عالية بقصد التباهي. واذ اصبح اقامة مثل هذه الحفلات موضة شائعة في بعض البلدان العربية. وأصبحت قصص التبذير تحتل موقعاً في الحديث اليومي للمواطن العادي، وصادف قبل شهرين ان سمعت من احد العاملين في احد فنادق الشيراتون في احدى المدن العربية ما يبدو اكثر من ملفت للنظر. فقد روى المذكور ان بعض حفلات الاعراس وغيرها والتي تتكرر في الفندق المذكور تصل تكاليفها الى ملايين عدة من الدولارات الاميركية. ومن الطرائف في هذا الخصوص ان بعض الذين ينوون اقامة مثل تلك الحفلات يسألون قبل اقامة حفلاتهم عن تكاليف حفلات سابقة اقامها بعض معارفهم من نفس الفئة كي يزيدوا عليهم على صعيد البذخ والتكلفة. واذا كانت كلفة الهدر والتبذير على القصور الساحرة والسيارات الفارهة والحفلات الساهرة وغيرها تقدر بنحو 400 مليون دولار اميركي سنوياً في بلد صغير كلبنان فكيف بالكلفة المذكورة في البلدان العربية الاخرى سيما الغنية منها. ان الهدر والتبذير يعكسان حقيقة مفادها ان الكثير من اصحاب الثروة في الوطن العربي لم يحصلوا على ثرواتهم من طريق القيام بأنشطة اقتصادية كما هو عليه الحال في البلدان الصناعية. فلو كانوا حصلوا عليها من طريق ذلك لما كانوا على استعداد لهدرها وتبذيرها. كما انهما يشيران الى ازدياد حجم الفروق بين خطي الفقر والغنى في بلدان الوطن المذكور. الهدر من قبل الحكومات والبيروقراطية ان هدر قسم هام من الثروات العربية لا يتم فقط من قبل الافراد وانما من قبل الحكومات كذلك، فقسم مهم من ايرادات هذه الاخيرة يصرف كنفقات جارية. وتحصل البيروقراطيات في هذا الخصوص على النصيب الاكبر بأشكال وأساليب عدة غير شرعية. وعلى الصعيد الاستثماري تم اقامة كثير من المشاريع الحيوية من قبل الحكومات العربية في قطاعات البنية التحتية والصناعة وغيرها. غير ان مسألة الجدوى الاقتصادية لتلك المشاريع لم تعطى اهمية كافية لا سيما خلال عقدي السبعينات والثمانينات. وعلى رغم التحسن الذي حصل اخيراً على هذا الصعيد فان الاهتمام بمسألة الجدوى المذكورة لعدد لا بأس به من هذه المشاريع ما يزال دون المستوى المطلوب. ويلاحظ في هذا الخصوص انه يتم في كثير من الحالات اقامة مشاريع اقتصادية او اجتماعية ذات طاقات اكبر من الطاقات التي تستدعي الحاجة اليها. وعلى سبيل المثال يتم تشييد مطارات او جامعات أو ابنية حكومية ضخمة ليست بلداننا نحن حاجة الى أو بقادرة على استثمار منشآتها بالكامل. وفي حالات كثيرة يتم استيراد معدات وخطوط انتاج تترك في العراء لفترات طويلة. وعندما يبدأ العمل لتركيبها وتشغيلها يكتشف المعنيون ان الصدأ والغبار أديا الى تخريبها. ما يتسبب في هدر قسم هام من رؤوس الاموال التي كان من الممكن استخدامها في مجالات اخرى من شأنها تحفيز انشطة اقتصادية مختلفة اكثر نفعاً وأعلى مردودية. شيوع عقلية الهدر ان بناء مشاريع بطاقات اكبر من تلك التي تستدعي الحاجة اليها يعبر الى حد كبير عن شيوع عقلية الوجاهة والتفاخر بالانجازات الكمية على حساب النوعية منها في الوطن العربي، ولا يختلف الامر اذا كان المشروع مطاراً أو بيتاً أو قصراً. وما يدلل على ذلك مثلاً تباهي احدهم بأن لديه اكبر البيوت أو القصور في منطقته. وفي أحيان كثيرة يرد في وسائل اعلامنا العربية ان الدولة العربية الفلانة قامت بانجاز اكبر مشروع في الشرق الاوسط في مجال معين. من دون التطرق لمسألة الجدوى الاقتصادية للمشروع. من خلال ما تقدم نخلص الى ان كل من غياب روح المبادرة والتصرف اللاعقلاني بالثروات العربية يشكل عائقاً امام تشكل التطور النوعي والكمي لما اسميناه قطاع المجددين في البلدان العربية. وإذا كان تشكل هذا القطاع مهماً لتحسن مناخ الاستثمار فمن الضروري العمل على تشجيع هذه الروح والحد من هدر وتبذير الثروات. ان مهاماً كهذه ملقاة على عاتق كل من التنظيمات الاهلية والحكومية ذات الطابع الاقتصادي بالدرجة الاولى. فعلى غرف التجارة والصناعة والزراعة وغيرها في الوطن العربي على سبيل المثال القيام ببرامج وأنشطة من شأنها فتح آفاق عمل جديدة امام رجال الاعمال العرب لا سيما النشطين منهم ولكن على الصعيد المحلي فقط. كما ينبغي قيام الغرف العربية بحفز اصحاب الثروات على خوض مجال الاعمال من خلال اظهار محاسن ذلك على الاصعدة العائلية والوطنية وغيرها. وعلى الاصعدة الحكومية فان على الوزارات والهيئات المتخصصة بالاضافة الى ذلك العمل بجدية على تشجيع الترابط والتشابك بين رجال الاعمال العرب بهدف قيام شريحة او شرائح منهم بالنشاط على الساحة العربية من المحيط الى الخليج. كما عليها ايضاً العمل على تقوية علاقة المدراء ورجال الاعمال العرب مع زملائهم على الصعيد العالمي. فالعلاقة المذكورة ضرورية ليس فقط لتبادل الخبرات وانما ايضاً لنقل المعارف والتكنولوجيات التي تحتاجها بلداننا.