تظل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، في مصر بخاصة والعالم العربي عموماً، هي الأكثر استقراراً وهدوءاً في ظل متغيرات مستمرة دولياً تتأرجح بين الاضطرابات العرقية والقلاقل الطائفية. وبعيداً عن العبارات الانشائية، فإن هناك في شأن العلاقة مع أصحاب الديانات الأخرى تعليمات إسلامية خالدة بقيت عبر العصور والأمصار، رغم كل محاولات الوقيعة والفتنة، فلم تزل البشرية المعاصرة تردد شعارات سلفية تترجم مواقف سماحية بين المسلمين والاقباط: "الاقباط منا لهم مالنا وعليهم ما علينا"، وتمثل العبارة البسيطة الشامخة التي صدرت منذ أربعة عشر قرناً تكريساً واضحاً لمبدأ المواطنة بالنسبة إلى الأقباط في الدولة المصرية الاسلامية. ولم تزل كتب التاريخ الاسلامي تحمل لنا صورة شاخصة لمواطن قبطي من رعايا الدولة المصرية المسلمة يحمل شكايته إلى رئيس تلك الدولة من عنف مارسه إبنُ حاكم إحدى ولاياتها، فكان القصاص الذي لا يمكن أن تعرفه المجتمعات المعاصرة في أبهى صورها، وهو أن تمكن المواطن القبطي من ابن الحاكم وأنزل به العقاب الرادع. وساهم النص الديني الإسلامي في تعميق أواصر التفاهم الأخوي بين المسلمين والأقباط، فقال الله تعالى في سورة المائدة: "ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا...". وتشديداً من النبي محمد صلى الله عليه وسلم على ضرورة التسامح مع أهل الذمة من النصارى، قال "من عادى ذمياً فقد برئت منه ذمةُ الله ورسوله". وقال علماء التفسير في قوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا"، وهي جاءت آية محكمة لأنها وردت بعد آية السيف التي ورد فيها الأمر بالقتال. فالظالم لم يُؤمر بجداله بالتي هي أحسن. ولذلك بيّن الخطاب القرآني مناط الظالمين من أهل الكتاب في قوله تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا". هكذا كونت لغة التسامح في الخطاب التشريعي مرجعية ترسخ حقيقة العلاقة الاخوية بين المسلمين والاقباط عبر كل العصور. فالمسلمون توارثوا منذ فجر الاسلام الطبيعة السمحة في علاقتهم بالنصارى حال الاستضعاف والتمكين. ولما كان محمد وأصحابه مستضعفين في مكة وكان مشركو قريش يظلمونهم ويؤذونهم ويعاقبونهم على الايمان بالله ورسوله، هاجرت منهم طائفة مثل عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود وجعفر بن ابي طالب إلى أرض الحبشة، وكان ملكها النجاشي نصرانياً ومكثوا بها آمنين على دينهم ومعتقداتهم لا يسمعون شيئاً يكرهونه. ولكن أصحاب الفتنة حلا لهم أن يوقعوا بين نصارى الحبشة والمسلمين المهاجرين اليها، وكاد مشروع الفتنة أن يؤتي ثماره حتى أرسل النجاشي في طلب هؤلاء المسلمين المستضعفين وسألهم عن الدين الذي من أجله فارقوا قومهم ولم يدخلوا في دينه. فلما تلا عليه جعفر بن ابي طالب أوائل سورة مريم قال النجاشي: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة". ولما اقتتل الفرس والروم، في اوائل بعثة النبي، وكان الفرس مجوساً والروم نصارى، فرح المشركون بانتصار الفرس لأنهم أقرب إليهم من أهل الكتاب. وساء المسلمين ذلك لأن أهل الكتاب من النصارى أقرب إليهم. ولقد سبق أن عانى نصارى مصر كثيراً من وطأة اضطهاد الرومان الوثنيين، بل استمرت معاناتهم حتى بعد اعتراف الامبراطور قسطنطين الكبير، مؤسس الدولة البيزنطية بالمسيحية كدين، الأمر الذي أدى إلى اختفاء البابا بنيامين فراراً من بطش الرومان. وحينما دخلت مصر الاسلام حرص حكامها على تنظيم العلاقة بينهم وبين الرئاسة الدينية للاقباط بل ان ينظموا علاقة الاقباط برئيسهم الديني. وأرسل عمرو بن العاص كتاب أمان الى البطريرك أشاعه في كل أقاليم مصر لعدم معرفته المكان الذي اختبأ فيه على وجه التحديد. وكانت حفاوة عمرو بن العاص بالبابا بنيامين موضع اعجاب وتقدير الأقباط وسمح لهم ببناء ما هدم من كنائس وأديرة. وحرص حكام الدولة المصرية الاسلامية على أن يؤكدوا دائماً رعايتهم لأهل الذمة. لم تكن هذه الروح تعبيراً عن مشاعر المسلمين تجاه اخوانهم من نصارى مصر فحسب، بقدر ما كانت توصيفاً لتفاهم أخوي تبادلي. فحينما داهمت الحملات الصليبية مصر لم ينخدع النصارى بدعاوى الصليبيين ولم يحاولوا مساعدتهم أو تفتيت وحدة الصف المصري. ولم تكن هذه الصورة صفحة قد طويت من تاريخ قديم، وانما هي آداب موروثة للأجيال المتعاقبة توقف عندها التاريخ الحديث طويلاً حينما انتفض الشعب المصري بمسلميه وأقباطه ضد المحتل الاجنبي في ثورة 1919، وبقي النسيج الوطني في مصر متناسقاً في تكوينه العقائدي المتميز في دولة تعتز بتراثها الديني وتضمن بين دفتي مشروعها الدستوري أن دينها الرسمي الاسلام، وان الشرعية الاسلامية هي مصدر التشريع فضلاً عن توعية المواطنين بالموروث من سماحة هذا الدين العظيم. وحين نشير إلى الدولة المصرية في تحقيق العلاقة بين المسلمين والاقباط فإننا لانقصد نظام حكم بعينه بقدر ما نعني الدولة المصرية العريقة التي توارثت التآخي السمح بين مواطنيها، حتى في أسوأ فترات الاستبداد السياسي التي مرت بها. وبقيت تلك العلاقة من أهم الثوابت التي لم تتأثر بديكتاتورية نظم الحكم المختلفة التي قد تكون مارست القهر على مواطنيها، غير انها لم تتدخل في الأمور التعبدية والعقائدية وحرية العبادة للمواطنين النصارى. بقيت كل هذه المعالم تضبط ايقاع العلاقة بين المسلمين والاقباط في مصر رغم ما قد يحدث من متغيرات دولية في العلاقة بين الاقليات المسلمة وبعض الدول التي يعيشون على اراضيها، واستمرت الكنائس تدق اجراسها بانتظام في ربوع مصر المحروسة عبر عصورها المختلفة ومدارسها السياسية المتعاقبة منذ بزغ فجر الاسلام في سمائها في وقت ضاقت أوروبا المسيحية بارتفاع عبارات الآذان فوق أراضيها، بل حظرت إقامة مآذن أو مساجد بالطريقة التقليدية وفق ما تسمح به المعتقدات الدينية لابنائها المسلمين. ولم تسمح سوى بأن يمارس المسلمون طقوسهم التعبدية في بعض المقار أو الشقق التي تؤجر لتؤدى فيها الصلوات فحسب. واستمرت أواصر الأخوة الوطنية تظلل المواطنين المصريين من مسلمين وأقباط في معزوفة تسامحية فردية، فازدوجت محال إقامتهم واختلطت تعاملاتهم اجتماعياً وتجارياً وسياسياً وسالت دماء كثير من اقباط مصر دفاعاً عن حياضها في الحروب المتكررة ضد العدوان الاجنبي، في وقت كانت تحاك المؤامرات المنظمة لاقتلاع أمم مسلمة من وسط أوروبا. ولم تزل الشعوب المسلمة في البلقان تواجه أكبر مذابح الابادة الجماعية والعرقية الى الآن، فيما فات الذين يدبجون اعلاناتهم المأجورة ممن اصطلح على تسميتهم بأقباط المهجر انهم تركوا فلذات أكبادهم آمنين على دينهم مطمئنين الى عبادتهم يتدرجون في معاهد التعليم المختلفة ويقلدون الوظائف وفق معايير الترقية والتقويم المعتادة ويحملون حقائب وزارية عدة. ومما يبعث على الرضا ويؤكد الحقائق التي اتناولها موقف أقباط مصر الحاسم والرافض لكل محاولات الفتنة التي تحاك ضد مصر. ولا تحتاج الحكومة المصرية إلى أن يدافع عنها أحد خصوصاً من هو مثلي من المعارضين لكثير من سياساتها بانتماءاتي الدينية المعروفة. ولكننا هدفنا في هذا المقال الى رصد كل الشواهد التي نصل منها الى تحقيق موضوعي للعلاقة بين المسلمين والاقباط في مصر بعيداً عن الانتماءات أو المزايدات السياسية. فمثل هذا الموضوع المهم لا يحتمل في تصوري أي عبث. والعبث في مقام كهذا هو من قبيل اللعب بالنار الذي يصعب أن يكون مأمون العواقب. ومعروف أن الحكومات المصرية منذ العهد الملكي وحتى الآن، دأبت على توفير كل عوامل الهدوء والسكينة توفيقاً لكل أوضاع الأقباط في تأكيد استقلالية قيادتهم الكنسية وخصوصية علاقتهم الدينية. وقد حدث هذا في وقت دخلت مصر منذ جمهوريتها الثانية برئاسة عبدالناصر في مواجهة شرسة مع الجماعات الاسلامية ممثلة في "الاخوان المسلمين" آنذاك، وتتابعت المواجهات الأمنية في الجمهوريات التالية بين الحكومة المصرية وبين الجماعات الاسلامية. بل تعالت أصوات الاحتجاج ضد السادات حينما درج على استخدام حقه الدستوري في تعيين عشرة من أعضاء مجلس الشعب البرلمان من الاقباط وكانت هذه الاحتجاجات تصدر من سياسيين حزبيين ممن يمكن وصفهم بالعلمانيين تأسيساً على عدم جواز تخصيص هذه المناصب التشريعية للأقباط، أملاً في دفعهم الى تفعيل مشاركتهم في الحياة السياسية بصورة تلقائية من دون منحهم عدداً من المقاعد البرلمانية الشرفية باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من هذا الوطن. ما نريده بهذا تفنيد دعاوى خبيثة وردت في الاعلان المشبوه والمنشور أخيراً في إحدى الصحف الاميركية، والذي لم يستهدف النظام المصري الحاكم بقدر ما استهدف أمن الوطن بصورة شاملة. ويهمني في هذا الصدد أن اتساءل بصوت عال عن مدى الرابط بين الحملة المدفوعة الثمن حالياً واثارة النعرة الطائفية في محاولة رخيصة لتهديد أمننا القومي، وبين المواقف الرسمية للحكومة المصرية من قضايا عدة قد يكون لنا نحن معشر الاسلاميين في شأنها رأي معارض ومخالف للحكومة المصرية شكلاً وموضوعاً، مثل تطرف نتانياهو وعرقلته إتمام تنفيذ بنود ما اتفقت عليه اسرائيل مع الفلسطينيين، وعدم ممارسة الولاياتالمتحدة لضغوط تذكر على الاسرائليين لجهة الانسحاب من الاراضي العربية في فلسطين والجولان ولبنان، بل الموقف المصري الواضح الرافض لمحاولات واشنطن الحصول على تأييد دولي من أجل توجيه ضربة جوية ضد العراق. وإذا عدنا الى العلاقة بين المسلمين والاقباط فإننا سنلاحظ أن التوتر الذي شهدته حديثاً بدءا من 1971 حتى وصل الى ذروته في أحداث الزاوية الحمراء، واكبه وجود قيادات جديدة. فالسادات كان قد تولى لتوه حكم مصر خلفاً لعبدالناصر، وكان البابا شنودة قد تولى القيادة الكنسية خلفاً للراحل البابا كيرلس السادس. و كان على السادات أن يعيد تنظيم الحكم تخلصاً من رموز عبدالناصر ووضع بصمة مميزة خاصة به والعمل على الاستمرار في تجهيز القوات المسلحة لخوض حرب مصيرية مع اسرائيل. في هذه الآونة برزت القيادة الكنسية الجديدة والتي عملت ايضاً على تغيير نمطية الاداء داخل المؤسسة الارثوذكسية واحكام قبضة السيطرة على كل المدارس السياسية الموجودة فيها وإنهاء هيمنة بعض المثقفين الاقباط على الدور السياسي القبطي. وبينما كان السادات يعمل بخطى حثيثة على إعادة التكوين الايديولوجي للدولة - حسب تعبير "تقرير الحالة الدينية" الذي أصدره مركز الدراسات السياسية في "الاهرام" العام 1995 - بدأت القيادة الكنسية الجديدة آنذاك تمارس نوعاً من أنواع الضغط لاعادة صوغ عناصر وشروط التفاهم التاريخي بين الكنيسة والدولة عبر احتجاج البابا على قوانين الردة ومشاريع تقنين الشريعة التي كانت مطروحة في ذلك الوقت وتحريضه التظاهرات المعادية للسادات في الولاياتالمتحدة وامتناعه عن إقامة قداس عيد ميلاد السيد المسيح. ولذلك نُشرت كتابات من رموز اسلامية تندد بتحركات البابا السياسية، من أشهرها كتاب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله "قذائف الحق" الذي صادرته الدولة آنذاك ولا يزال محظوراً حتى الآن. وكان طبيعياً أن تصل آراء الغزالي بما له من قبول الى رجل الشارع العادي ما أحدث تغيراً في النفوس. وفي اثناء هذا كله وبين ثناياه وقع حادث الزاوية الحمراء. ومثل هذا الحادث لا يقع ويتم تصعيد آثاره بهذه الطريقة لولا أن المناخ السياسي آنذاك كان مضطرباً. وأذكر أننا في تلك الايام لم نكن نصدق بيان الحكومة الرسمي الذي اذاعه وقتها اللواء النبوي اسماعيل بصفته وزير الداخلية، عن أن الحادث "عادي وطبيعي ومجرد شجار يحدث بين مسلمين ومسلمين أو بين أقباط وأقباط"، حتى عرفنا من قُرب صحة تلك المعلومات ونحن نحقق الموضوع، بينما كنا نعيد تقويم الاحداث اثناء اعتقالنا في سجن طره، بعد مقتل السادات في تشرين الاول اكتوبر 1981. و كانت الأحداث التي سبقت اغتيال السادات بلغت ذروتها بقرار ابعاد البابا شنودة واجباره على الاقامة داخل اسوار دير وادي اللطرون. وبعد تولي مبارك الحكم عمل على ازالة آثار هذه المرحلة الحرجة فأصدر قراراً باعادة تعيين البابا شنودة بطريركاً للكرازة المرقسية وعمل على اجهاض كل محاولات اثارة النعرات الطائفية. وتجلى ذلك في قرار منع عقد مؤتمر الاقليات في ايار مايو 1994. وكان بدا قبل ذلك بقليل ان التجانس المفتقد في العلاقة بين الدولة والكنيسة يمكن أن يعود مجدداً فأرسل البابا شنودة الى اقباط المهجر في كانون الثاني يناير 1994 يدعوهم إلى استقبال الرئيس مبارك بالترحاب والحفاوة التي تليق برئيس الدولة المصرية، وعادت الحرارة تدب في جسد العلاقة بين الطرفين مع تزايد ايقاع التوجه الوطني للادارة المصرية تجاه اسرائيل ورفض الرئيس مبارك المتكرر السفر الى القدس.