أهدى أدونيس "مدارات الحياة" في 19 شباط فبراير 1998 الى "ضحايا العنف في الجزائر ولضحايا العرب ماضياً وحاضراً"، لكن مقالته المعنونة "ماذا يقدر القش ان يقدم لحقول المستقبل؟" لم تكن سوى ضرب من العنف الفكري غير المبرر بحق الفكر الاسلامي ودعاته عامة، ورمز مؤلم للانقطاع الحاد بين النخبة العربية التي ينتمي اليها ادونيس وبين المرجعية الثقافية التاريخية للأمة العربية، حتى انه ختم مقالته بسلسلة شتائم لا يمكن ان تصدر الا عن نظرة متطرفة حقاً لواقع الساحة الفكرية في بلداننا. وبالرغم من اشارات مبثوثوة هنا وهناك لانتقاد نزعة العنف عند غير المنتسبين للمرجعية الفكرية الاسلامية، فإن جوهر المقالة لا يتعلق بغيرها. انها تبدأ بهذه الادانة: "كيف لا يزداد القلق من العنف الظاهر أو الكامن في المجتمعات العربية الاسلامية، خصوصاً انه يمارس غالباً باسم الدين؟"، ثم تتوسط بهذه الشكوى الحادة "ان العنف بدعوى حماية الدين أو بدعوى القضاء على الإلحاد يظل مشكلة كبرى ويبقى في قلب هذه المشكلة". لكن العنف في نقد العنف يبلغ مداه في الخاتمة، حيث يتخلى أدونيس عن كل محاولاته السابقة في المقالة للتحلي بالتوازن والموضوعية، ويشن هجوماً حاداً على الثقافة الاسلامية التي لم تقبل تشكيك طه حسين في القرآن الكريم أو نفي علي عبدالرازق للطابع الاجتماعي للشريعة أو سخرية لويس عوض بالرابطة العربية، ويقول عنها بالنص "تواصل تلك القراءة العمياء والمهيمنة بواحديتها وعنفها تحويل الذاكرة العربية على مستودع للأوهام والأباطيل، وهي في ذلك تحول الحاضر، بقياسه على الماضي كما تتوهمه، الى هيكل من العشب، لكن ماذا يقدر القش ان يقدم لحقول المستقبل؟". وأريد ان اختصر تعليقي الموجز على هذه المقالة "العنيفة" في النقاط التالية: 1 - ليس صحيحاً ان الشعارات الدينية هي الغطاء الأهم أو الأبرز للعنف في المجتمعات العربية. اذا درسنا فترة ما بعد خروج الاستعمار الغربي من بلادنا وهو نموذج جلي للعنف الجماعي، فإن العنف السياسي والاجتماعي مورس خلال باستمرار باسم شعارات تنتسب الى الحقل الفكريالتغريبي، أو اليساري، أو المنتسب زورا الى الحداثة. وهنا كان الدين والمجتمع والرأي المخالف من أبرز ضحايا عنف الدولة الحديثة، والنخب التي تحررت من سلطان الشريعة عليها باسم المدنية وباسم الشعب، لكنها في الحقيقة لم تعد تعترف بأي قانون فوقها أو دستور يردعها. لقد أصبحت هي القانون بعد ان كانت الشريعة تجعلها على قدم المساواة مع عامة المواطنين، ولذلك مارست العنف بكل أشكاله ضد الشعب، والأدلة موجودة ويعرفها أدونيس قبل غيره، ومنها النموذج الجزائري ذاته اذ يعرف علماء التاريخ والاجتماع ان من أبرز أسباب دوامة العنف الحالية في البلاد انفراد نخبة عسكرية محدودة بمقدرات البلاد السياسية والاقتصادية طوال ثلاثين عاماً، وهو انفراد مورس تحت راية الاشتراكية لا راية الاسلام. 2 - لم تظهر الشعارات الدينية في ساحة العنف السياسي الا مؤخراً، وسرها معروف رغم كل محاولات التعمية، وأحب ان أبينه بالسؤال التالي: لماذا لم يظهر العنف على الطريقة الجزائرية في المغرب، أو الأردن، أو اليمن، أو الكويت على سبيل المثال؟ والرد لا علاقة له هنا بالايمان أو الالحاد، وانما هو باختصار شديد كما يلي: كلما سمحت الدولة الحديثة بالحد الأدنى من الحرية لمختلف الفئات الاجتماعية والتيارات السياسية، اختفت ظاهرة العنف أو ما نسميه الآن بظاهرة الارهاب. لكن ما يجب اثباته بوضوح هنا هو ان الثقافة الاسلامية بريئة من جماعات الارهاب التي تنسب جرائمها للاسلام. هذه الجماعات افراز واقع سياسي واجتماعي مريض، ومهما تمسحت بالدين فإن تعاليم الاسلام تدين أعمال الارهاب التي يرتكبها البعض في مصر أو الجزائر أو أفغانستان. واذا كانت بعض أصوات المفكرين المسلمين تظهر مبحوحة حين التعليق على مثل هذه الأعمال، فإن عدداً واسعاً آخر منهم، ومن بينهم كاتب هذه السطور، قد تصدوا دائماً لادانتها بشكل قوي وقاطع، من دون ان تتحول ادانتهم الى عقدة مع الدين نفسه. 3 - مع تأكيد الادانة للذين يرتكبون جرائم سياسية باسم شعارات دينية، فإن من مقتضيات الأمانة والانصاف التذكير بأن 90 في المئة من ضحايا العنف السياسي في العقدين الماضيين ليسوا من الملحدين أو من دعاة التحديث، وانما هم خصوم الدولة في الرأي عامة، ومن خصومها المنتسبين الى الحركات الاسلامية بشكل خاص. فلماذا نساير التيار ونلقي باللوم كله على الضحايا الضعفاء وننحاز موضوعياً لمن تنتهك حقوقهم الأساسية باسم الخوف على التحديث والعلمانية؟ 4 - أما أخطر ما في مقالة أدونيس فهو خاتمتها، وهي الأصدق في النطق بلسان حال النخب المعزولة في أي مجتمع، اذ تنزع الى تخطئة كل الناس من حولها وتنسب لنفسها العصمة التي لا يأتيها الباطل أبداً. ان المرجعية الثقافية الاسلامية ليست حصيلة "جراح ثقافية" متوارثة كما يتصورها أدونيس، ولا "مستودعاً للأوهام والأباطيل". لو كانت كذلك ما بقيت قرناً واحداً بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ازدهرت بعد ذلك لتكون قاعدة حضارية اسلامية ممتدة من الصين الى الأندلس. انما بقيت هذه الثقافة وتطورت لأنها استطاعت حتى في أوقات الضعف ان تبقى موصولة بأهم ما في نصوصها التأسيسية، أي القرآن الكريم والسنة النبوية، تخاطب أسمى ما في الانسان وتساعده على معالجة أخطائه ونواقصه: فهي تعلمه ان الله واحد وكل الناس خلقه لا فرق بينهم الا بالعمل الصالح، وان الرجل والمرأة بعضهم أولياء بعض، وان الاكراه باطل حتى في العقيدة، وان العائلة أساس المجتمع، وان مكارم الأخلاق جماع الدين، وان أهل الكتاب شركاء في المواطنة لهم ذمة الله ورسوله فلا يجوز تصفيتهم بالملايين كما في ألمانيا أو غيرها، وان الظلم ظلمات وان العدل اسم الله وعنوان شريعته. هذا ما تتوارثه اجيال المسلمين بعضهم عن بعض، يفعلون ذلك عن قناعة وبكامل مداركهم العقلية. فإذا نشأ من بينهم أديب وشطح مرة بالتشكيك في القرآن الكريم لم يقبلوا منه شطحاته وان قدروا عطاءه في ميادين أخرى وأطلقوا عليه من بعد ذلك لقب "عميد الأدب العربي". وان ظهر من بينهم كاره لسيادة العربية الفصحى لسبب أو لآخر سمحوا لأفكاره ان تظهر لكنهم لم يعملوا بها ولم يتجاوبوا معها. وان زعم أزهري منهم ان الاسلام ليس قاعدة لرابطة سياسية جامعة استسلاماً لأمر واقع، ردوا عليه بالحجة والبرهان ولم يتخلوا عن قناعتهم بأهمية الجامعة الاسلامية، الى ان بنوا لها لاحقاً منظمة المؤتمر الاسلامي التي تحفظ شعارهم في حده الأدنى. كيف يكون هذا التزاوج بين العقيدة الاسلامية ومتغيرات العصر "قراءة عمياء وعنيفة"؟ ليس ثمة الا جواب واحد، هو ان أدونيس يلبس نظارات تحجبه عن رؤية الواقع كما هو، وتنزع منه الثقة بالناس، وتسفه لديه علماء الأمة الذي أفنوا حياتهم في مسعى تجديد الفكر الاسلامي من دون ان يتخلوا عن الاسلام نفسه أو يشككوا في القرآن الكريم. ما الذي يجعل كاتباً بحجم أدونيس لا يكاد يرى في الثقافة الاسلامية الا هيكلاً كبيراً من العشب من ناحية، وخيمة صغيرة يحتمي بها نفر من المفكرين المخاصمين للمرجعية الاسلامية من ناحية اخرى، كأنه ليس لنا من خيار الا بين المر والحنظل؟ حسناً، أين محمد عبده، وأين علال الفاسي، وأين العقاد، وأين عبدالرحمن الشرقاوي، وأين طه حسين نفسه في اسلامياته، ومحمد الطاهر بن عاشور،، ومالك بن نبي ومحمد عمارة، ومحمد الغزالي، وصبحي الصالح، وأمثالهم ممن لم تزلزل تيارات التغريب اقدامهم أو تطح بمعتقداتهم، كما لم يمنعهم تديّنهم من إعمال الفكر في الموروث واستئناف مسيرة الاجتهاد في الفكر الاسلامي؟ هذا وقد أعرضت عمداً عن أسماء مفكري الحركات الاسلامية الحديثة، فأنا لا أحب ان أشق على أدونيس أو غيره فأدعوه لاجتهادات حزبية قد يكره حزبيتها ولو رضي منطقها وبرهانها، اضافة الى انني أؤمن شخصياً بأن من الخير الكبير للمرجعية الاسلامية ان تتحرر من المقاربات الحركية الحزبية لأنها لا تنسجم مع الطبيعة السمحة والجامعة لتلك المرجعية التي تخاطب بليون مسلم وليس ألفين أو عشرة آلاف من أعضاء التنظيمات السرية. يا عزيزي أدونيس: الثقافة العربية الاسلامية ليست مظلمة الى هذا الحد، وليس في الانطلاق منها ما يبرر هذا التطرف العنيف في أحكامك على مخالفيك. لذلك أناشدك ان تجود بشيء من حسن الظن وقليل من التسامح.