قبيل زيارته بغداد، في 21 شباط فبراير المنصرم، شاع في أوساط الديبلوماسية والصحافة "الأمميتين"، أي في أوساط قراء الصحافة في العالم كله، أن السيد كوفي أنان أو عنان، في كتابة أخرى يعاني من "عَرَض ديكويار". والعرض، أو المرض، هذا، من علاماته الشعور بالعجز والعزلة، والاكتئاب، والتسليم بما هو واقع لا محالة أي الحرب، وجر أذيال الخيبة الشخصية والمؤسسية من جراء ضعف الدور والحيلة، إلخ. فإذا شاعت مثل هذه الشائعة حق لمن وقعت إليه، وهو "العالم"، أن يتوقع الإخفاق الذريع. لكن الأمر تكشف عن كذبتين. فلا "عرض ديكويار" كان هذا المرض، ولم يصب السيد أنان، الأمين العام لهيئة الأممالمتحدة، به ولا بما يشبهه. فروى السيد خافيير بيريز ديكويار لمراسلة "الحياة" بباريس، رندة تقي الدين، أنه يوم زار بغداد، في 12 كانون الثاني يناير عام 1991، خمسة أيام قبل طوفان النار والقصف، أراد القيام بمسعى "باسمه الشخصي" لأن ذلك "يؤمن ... فرصة أكبر لإسماع" وساطته. وهو استقبل "بطريقة ملائمة"، ولم ينتظر بردهة مكتب السيد صدام حسين ساعات، على ما روى موفد فرنسوا ميتران الفرنسي، ولم يكن مكفهر الوجه، أشعث الشعر وهو اللاتيني الأميركي!" ولم يفتشه حرس السيد حسين المتشككون" وكان حواره مع حاكم العراق "حضارياً جداً"، وأصغى صدام حسين إليه "بهدوء بالغ". وظلمه العراقيون، أي دعاوتهم الرسمية، حين ألقوا عليه تبعة نقله "إرادتهم الحسنة" نقلاً محرفاً وغير أمين، على زعمهم. أما أنان فلا علم له بالعَرَض المزعوم ولا بإصابته به، على ما يصف الصحافيون والديبلوماسيون، اليوم، الأيام التي سبقت زيارته. فهي، على وصف هؤلاء المتأخر، وفي ضوء نجاح أنان، أيام ملحمية. فهو انتظر، على خلاف سلفه الأسبق، تكاثر الالتماسات ونضوجها و"صعودها" إليه من كل حدب وصوب. ويبدو، اليوم، أن السيد أنان رمى من وراء جمع الالتماسات وتخزينها عزل الولاياتالمتحدة الأميركية، راعية انتخابه خلفاً للسيد بطرس بطرس غالي، الفرنسي الهوى والعصبية واللغة. وهو حمل العراقيين على مسح القصور الرئاسية الثمانية، وألزمهم إعلان عدد الكيلومترات المربعة، منعاً للإلتباس. وهذا "الخبر" انتحال خالص: فلجنة التفتيش ونزع سلاح الدمار الشامل كانت أحصت القصور وكالت مساحتها قبل بعض الوقت. إلى ذلك يروي السيد الأخضر الابراهيمي، وهو سافر مع أنان إلى ثلاثة ديبلوماسيين سويديين "باردين" إلى بغداد من 21 إلى 23 شباط، أن الأمين العام مهد لمهمته بجمع "الممثلين الخمسة للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ولم يكونوا يتكلمون مع بعضهم بعضاً، وهو الذي جعلهم يتحاورون..."، على ما روى وزير الخارجية الجزائري الأسبق ل"الحياة" ومراسلتها كذلك. وينبغي أن يؤخذ في الحسبان تمهيد الديبلوماسية الفرنسية الطريق، بواسطة السيد برتران دوفورك، مدير عام الخارجية، والسيد جان كلود كوسران، رجل الاستخبارات والمستشار الرئاسي السابق، للأمين العام، في الثالث من شباط نفسه. فالرجلان زارا بغداد، والتقيا السيد عزيز، وعادا بحدس في وجود "ثغرة" في الموقف العراقي. وهما أيقنا، عن كثب، الإجماعَ العربي على رفض سياسة القوة، الأميركية تعريفاً. وهذا ما لم يفت الرئيس الفرنسي، السيد جاك شيراك. فصاغ عناصر الموقف: "الثغرة" العراقية، والإجماع العربي، و"فطنة" الرئيس الأميركي بيل كلينتون وضمناً: حكمة السياسة الفرنسية "سياسة دولية كثيرة الأقطاب"، على ما قال إلى صحيفة فرنسية كبيرة، في السابع والعشرين من شباط العتيد نفسه. أما ما خوَّل السيد كوفي أنان مزجَه الكيميائي الناجح والكيمياء، في هذا المعرض، بيت القصيد فإحصاؤه ووصفه يسيران. ويرجع كله، اليوم، إلى سيرة الأمين العام، وشخصه. فالرجل ولد في عام 1938، بعد عام واحد من السنة التي ولد فيها محاوره السيد صدام حسين. وهو إفريقي، غاني، من غانا كوامي نكروما، أحد "حكماء" إفريقيا، على ما يقال في قادة استقلال بلدان أفريقيا التي انتهت كلها غانا وغينيا وكينيا، وعلى قدر أقل السنغال وشاطئ العاج، إلى أزمة مزمنة. ووالد كوفي أنان شيخ عشيرة في بلاد تقع بوسط غانا، هي بلاد كوماسي وعاصمتها مدينة تحمل الإسم نفسه. وشيوخ العشائر قضاة عرف ومحكِّمون وليسوا زعماء وقادة وأصحاب سلطان. وقد يكون هذا الإرث مصدر الدماثة والصبر، نسبة وقياساً، اللذين يوصف بهما سليل الشيخ الكوماسي من غير تحفظ، اليوم. لكن المشيخة العرفية لا تمنع من الإمتياز ولا من الإمتيازات. فلم يكد كوفي أنان الفتى يبلغ الثامنة عشرة، وهو درس في مدرسة إرسالية أميركية كاثوليكية. وتعلم الانكليزية لغةً أماً، حتى اختارته مؤسسة فورد، وأوفدته على نفقتها إلى الولاياتالمتحدة الأميركية طالباً في العلوم الاقتصادية، بضاحية بوسطن حيث تلمع الحروف السحرية الثلاثة: إم ماتشاشوستس آي انستوتيوت تي تكنولوجي. فخرج من المعهد الأشهر مجازاً. وأتم الدراسة الإقتصادية بدراسة العلاقات الدولية، بجنيف، "كرسي" عصبة الأمم، سلف الأممالمتحدة بين الحربين ومقر بعض لجان الهيئة الحالية. فجمع إلماماً "حسناً" بالفرنسية إلى انكليزية "فطرية" غلب التطبع بها على الطبع المهمل. ومنذ عام 1963، وهو في الخامسة والعشرين، لم يترك الشاب فالمكتهل فالكهل ف"الشيخ"، الغاني، أروقة هيئة الأمم وردهاتها ومكاتب لجانها. فزاد على حِلم المشايخ الإفريقيين العائلي والتقليدي أناة ديبلوماسيي مكاتب المبنى النيويوركي الزجاجي، على نحو ما يكنى عن مقر هيئة الأممالمتحدة ومجلس الأمن في الحاضرة الأميركية الكبيرة. وبين هؤلاء الديبلوماسيين أسلاف آسيويون، مثل يوثانت، ونروجيون، مثل همرشولد، والإفريقي المصري بطرس بطرس غالي - لا يقدح في تراثهم الخلقي والمعنوي كورت فالدهايم، الضابط النازي السابق. ولم تعرف سابقة ديبلوماسية بارزة لكوفي أنان، الذي خلف غالي في الشهر الأخير من عام 1996، إلا توليه، في تشرين الأول أوكتوبر 1995، إنجاز الاتفاق الدولي، المتحدر من اتفاق دايتون الأميركي، في شأن البوسنة المنكوبة. فخَبر أنان خبرة مباشرة بناء العمل الديبلوماسي على مقدمات ميدانية، بعضها عسكري، اضطلعت القوة الأميركية، لأسفنا وسوء طالعنا، بمعظمها. وهذا ما لم تتستر عليه استقامة الرجل الخلقية، ولا حرفته الديبلوماسية، قبل أداء المهمة العراقية وبعدها. ولم تنجح مراسلة "الحياة" كذلك بنيويورك، راغدة درغام، في حمله على الاختيار بين التنكر لدور المقدمات العسكرية الأميركية، وبين التقليل من شأن الوساطات الديبلوماسية. فصدام حسين الذي استقبل الأمين العام للأمم المتحدة - وهذا أفرح السيد برزان التكريتي، ممثل العراق لدى الأممالمتحدة بجنيف وصاحب مخابرات أخيه السابق و"منفيه" ووكيله في غير مضمار - بلباس مدني، وبربطة عنق هنأ أنان صدام حسين على اختياره لونها، صدام حسين هذا، لم ينسَ ما نسيه بعض المراقبين والمعلقين، من محترفي التذكر والتأريخ مهنةً وعملاً. فهو لم ينسَ أن القيادة العراقية لم ترضخ لقرار مجلس الأمن الرقم 986 "النفط مقابل الغذاء"، الصادر في 14 نيسان أبريل 1995، إلا في 25 تشرين الثاني نوفمبر 1996، أي بعد نحو عشرين شهراً من تاريخ صدور القرار. وفي الأثناء، في اليوم الثالث من أيلول سبتمبر 1996، عمدت القوات الأميركية إلى ضرب أهداف عسكرية عراقية رداً على محاولة قوات صدام حسين انتهاك الحظر على شمال خط العرض 33، ونجدة قوات برازاني الكردية. وانقضى الشطر الأخير من عام 1997، وكان أنان أميناً عاماً منذ عشرة أشهر، في معالجة مجلس الأمن انتهاكات السلطة العراقية إجراءات لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل وتدميرها. فما يسميه صدام حسين "نهاية النفق" يجمع رفع الحظر والحصار إلى احتفاظه بسلاح كيميائي وصاروخي رادع. فأجمع المجلس، باستثناء امتناع فرنسا، في أواخر تشرين الأول أوكتوبر، على القرار 1134، وأنذر العراق بعقوبات جديدة إذا لم يتعاون مع لجنة التفتيش. وبعد ثلاثة أسابيع أقر المجلس القرار 1137، فحظر على الضباط العراقيين الذين يعرقلون عمل "أونسكوم" لجنة التفتيش مغادرة الأراضي العراقية. فرد العراق على ما تسميه دعاوته "استفزازات" المفتشين، وعلى رأسهم السيد باتلر، بطرد ستة مفتشين أميركيين، إلى تنظيمه تظاهرات احتجاج "عفوية" تهدد المفتشين. ويضم اليوم السيد الأخضر الإبراهيمي صوته إلى صوت السيد برزان التكريتي، وصوت السيد عمرو موسى وزير الخارجية المصري، مندداً ب"استفزازات" المفتشين، على رغم اضطرار مجلس الأمن إلى إصدار قرارين جازمين، في أقل من شهر واحد، يلزمان العراق بالامتثال لموجبات التفتيش. والحق أن تقرير "أونسكوم"، في تشرن الأول 1997، نبه إلى تملص القيادة العراقية من التفتيش عن الرؤوس الكيماوية والجرثومية، وهي أخطر أبواب التفتيش. وشارك "خبراء دوليون ومستقلون"، حسب التقرير، في التنبيه هذا. حين حط سليل الشيخ العرفي الغاني بمطار بغداد كان يحمل في جيبه ورقة السيد ساندي بيرغر، مستشار كلينتون لشؤون الأمن، التي أنهتها إليه السيدة أولبرايت، وزيرة الخارجية "سراً"، وفيها الشروط الأميركية. لكن "الشيخ" كوفي أنان زعم أنه لا يحمل شروطاً، وليس "ورَّاقاً" البتة. وحين حط بمطار نيويورك قافلاً من وساطته زعم أن عودته على طائر ميمون إنما يدين بها إلى "الصلوات" التي رافقته بالدعاء. وكان الكاردينال الأميركي الكاثوليكي، أوكونور، "ابتهل" إليه في عظته بكاتدرائية سان باتريك، في 15 شباط، أن "يوقف الحرب". ولا ريب في أن اجتماع حكمة الشيوخ الإفريقيين، وصلاة المعاونين والكرادلة وعامة الناس، إلى الحشد الأميركي والبريطاني "المتغطرس" في مياه الخليج، كان وصفة مركبة ناجعة وطبابة صاحب كار. والوصفة والطبابة مضطربتان، وتحتاجان إلى تجديد التركيب الصعب. فهل يملك الشيخ "اليد"؟