اذا كان تقييم الفكر تاريخياً، غالباً ما يشمل مرحلة بكاملها، او عصراً تاريخياً معيناً في امتداد حلقاته وعطاءاته، فإن المرحلة التاريخية التي نعيشها الآن في اطار ما يعرفه العالم العربي من انتكاسة الى اخرى. ومن رتابة الى جمود، ومن تقهقر الى انحطاط، وفي ضوء عصر العولمة، تفرض ان نعيد صياغة طرح الاسئلة العالقة بجوهر الارتباك الحضاري في كل دورة قمرية، وهذا لا يعني ان كل الاسهامات الفكرية والايديولوجية التي طرحت من قبل لم تكن كافية او انها عجزت على ملامسة تعقد الاوضاع المزمنة، بل لأنها تحرث في واقع يرفض التكييف مع ما يجري حواليه لوجود عجز ذاتي مزمن على مجاراة ابسط المفاهيم المتداولة في حقول التقدم والحداثة والعصرنة. فإذا كان هناك ارتباك حضاري الى حد الاغراق في ما يمكن تسميته بالازموية، فإن مرد ذلك يعود الى البنية الذاتية للمجتمعات العربية، مما يضعها بالضرورة على هامش العصر، وفاقدة لأي قدرة على اختيار نهضتها وموقعها الحضاري. تشكل البنية الذاتية للمجتمعات العربية عصب الاشكالية المطروحة التي حاولت كل المساهمات الفكرية بما فيها الانتاج الادبي ان تقاربها وأن تبحث عن مكمن الداء فيها، اي السلوك والذهنيات والممارسات والعادات وفي ضوء التخلف المسطر في القرى والمدن الذي ينعكس بالضرورة على التسيير، ويفقد كل امكانية لمعالجة ابسط الوقائع اليومية في الحياة العربية، مما يؤدي حتماً الى سيطرة ما هو قائم وسائد، اي سيطرة الايديولوجية السياسية الحزبية على ما عداها، ومعاداتها لكل مجالات المعرفة، وهيمنة اعلامها للإبقاء على تحكمها وسيادتها، ويجعل من ممارستها تكتسي صبغة الشرعية التاريخية، وهذا ما يعيق امكانية التحول والتغيير، وما دامت البنية الذاتية للمجتمعات العربية قائمة على التخلف والركود والرتابة والارتباك فإن اي حديث عن التقدم او النهضة او فرض وجود حضاري سيظل رهين عباراته ومفاهيمه. لقد أنتج الفكر العربي بكل تياراته القومية والماركسية والليبرالية والاسلامية اطروحات متعددة، مست كل مجالات المعرفة والاقتصاد والاجتماع والسياسة، الا انها ظلت تراوح مكانها، لا لأنها لم تبلور مشروعاً وطنياً، بل لوجودها بعيدة عن موقع القرار، وكل التنابز بينها كان على هامش الممارسة السياسية، ولم تسع يوماً الى ايجاد صيغ للتعامل على أرضية حوار فكري صريح، بعيدا عن التشنج والعصبيات القبلية والحزبية، حوار يرتكز اساساً على احترام حرية الرأي، والتعبير، وحقوق الانسان، والمعرفة الانسانية القائمة على الحداثة والتقدم والخروج من التخلف والتبعية، وإنهاء عصور الاستبداد والظلم الاجتماعي. لا مجال للخروج من الارتباك الحضاري، وسيطرة الايديولوجية على المعرفة، وهيمنة الرؤية الفكرية ذات البعد الواحد الا بخرق النسيج المهترئ للمجتمعات العربية القائم على التفسخ والتأخر والانقسامات والتجزئة، اذ من الصعب على مجتمعات تعشعش في هياكلها المؤسساتية تقاليد القرون الوسطى واللاعقلانية واللاتاريخية وما زالت تسود فيها ممارسات معادية لكل تحديث، ومعادية للعلم وأسباب الحضارة، ان تحقق وجودها في عالم يتطور تطوراً مذهلاً في كل ساعات النهار. ان من افرازات الارتباك الحضاري وتقلص امكانية التقدم انه خلق تراجعاً فكرياً على صعيد التنظير الى درجة انعدام اي رغبة في التفكير، وكأن الوضع اصبح مستعصياً على التحليل، ولم يعد قابلاً لأي اصلاح، وأن ما هو قائم مهيأ اكثر للارتداد الى الوراء، وغير متوفر على اي شرط يؤهله للارتقاء. وطبيعي ان يؤدي اي نوع من الارتباك الحضاري الى ارتباك فكري، امام تعدد التجارب وتوالي النكسات، والارتباك الفكري يفسح المجال لهيمنة السلطة السياسية وتوسيع سلطاتها وهذا ما يسمح لها بحرية القرار، وتقرير ما يحلو لها في غيبة تامة عن كل مرجعية دستورية او مؤسساتية، وهذا الواقع هو ما يؤدي حتمياً الى تغلغل الطغيان السياسي، ويغيب اي امكانية لتشييد حياة ديموقراطية سليمة. هل يعني هذا اقراراً بأوضاع المجتمعات العربية على ما هي عليه اذا كانت هذه سماتها، وقد انهكتها الهزائم وطبقات التخلف، مما جعلها تفقد زمام المبادرة مع كل رصيدها الحضاري القديم وإمكانياتها الذاتية. يمكن القول من حيث السياق العام للصيرورة التاريخية والوضع الحالي ان الاقطار العربية قد اضاعت فرصاً تاريخية ولم تتمكن من التلاؤم مع لحظات حضارية مواتية لظروف شتى داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، وقد ساهمت بكل معطياتها في خلق ارتباك حضاري اوقعها في ارتباك فكري عمّق من استمرارية وضعية التخلف المستديم. ان عدم التمكن من التلاؤم مع اللحظة الحضارية المواتية في محطات تاريخية معينة اضاع امكانية اي وثبة اقتصادية على غرار ما عرفه العديد من المجتمعات الأوروبية وبعض الدول الآسيوية سواء بعد الحرب العالمية الأولى او الثانية. وكل عطب تاريخي يؤدي ثمنه لاحقاً، حيث يصاب اي تحول بالاعاقة، وهذه احدى الاشكاليات الحالية المعيقة لأي تطور قادم بسبب تغير انماط التنمية، وتغير وسائط الاتصال، وأسس التقدم، وتغير اساليب التعامل الدولي وسقوط اكثر من يوتوبيا حالمة. ليست هذه لوحة تشاؤمية، وهي معطى تاريخي، ومعطيات معاصرة آنية عينية، الا انها قد تدفع الى ايجاد تفكير مزدوج يحمل بين طياته طاقات مشحونة بإرادات سياسية فكرية وحضارية، اذ لا وجود لأي شعب يقبل بهزيمته حضارياً حتى ولو كان في آخر القافلة، الا ان رفض الهزيمة الحضارية يفرض بالضرورة اعادة البناء، وتمثل التجارب الماضية، واعتماد رؤية نقدية لكل الممارسات، وتجاوز كل التابوات المحرمات في واقعنا ليس لمواكبة العصر، فالاتجاه حالياً يدعو فقط الى وقف النزيف، وترميم الحياة المهترئة، اي استعادة النفس في ضوء كل المستجدات الحديثة. اذا كان الارتباك الحضاري سببه تعدد في الرؤى، وتعدد في الاختيارات المطروحة، وما رافق ذلك من انحرافات في جسم السلطة السياسية بمفهومها العام ادت الى طغيان سياسي، وقمع للحريات، فإن اعادة البناء وترميم الحياة العربية ينبغي ان يرتكز على مقومات العصر، اي اعتماد اسس الحوار الديموقراطي والنظرة الحضارية لقيم الانسان، ومشاركة كل القوى الفاعلة في مهام العمل السياسي دون إقصاء، وإلغاء الفواصل والحواجز بين ما هو سياسي، وما هو ثقافي، في افق اعتماد نموذج حضاري فاعل ومتفاعل مع محيطه داخلياً وخارجياً، والقائم على تحليل دقيق لإشكالية المعرفة السياسية والعلمية وتعميق الرؤية الكاشفة لكل اوجه الحياة العربية اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.