تم أواخر الشهر الماضي العثور على كتابات قديمة سيكون لها دور مهم في تفهمنا لنواحي الحياة الاجتماعية والعقائدية خلال القرون الأولى للعصر المسيحي. فقد وجدت بعثة أثرية مصرية - كندية ألفي بردية في حالة جيدة في منطقة اسمنت الخراب في الوادي الجديد في الواحات الخارجة بصحراء مصر الغربية، ترجع الى العصر البلطمي الروماني ستؤدي - بعد ترجمتها ودراستها - الى تغيير كثير من المفاهيم السائدة بخصوص اعتقادات المصريين في تلك الفترة، عند بداية التاريخ الميلادي. وقال الدكتور جاب الله علي جاب الله الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار ان البرديات - المحفوظة الآن في متحف الخارجة - كلها في حالة جيدة وان كان بعضها يمثل مجرد قصاصات صغيرة، وهي مدونة باللغات الديموطيقية واليونانية والقبطية الى جانب قليل من النصوص اللاتينية. وتنقسم الكتابات الجديدة الى قسمين احدهما يمثل المعاملات المدنية اليومية، مثل عقود البيع والشراء والزواج، بينما يحتوي الآخر على كتابات ذات طبيعة دينية وفلسفية من بينها نصوص مانية. وأكد الدكتور جاب الله ان الباحثين المتخصصين يتولون الآن عملية ترجمة ودراسة المكتبة الجديدة وسيبدأ نشرها في المستقبل القريب. ويتضح لنا الآن ان منطقة الصحراء الغربية الواقعة بين مصر وليبيا - والتي تقوم الحكومة المصرية حالياً بتوصيل مياه النيل اليها في ما يعرف بمشروع توشكي - كانت أكثر كثافة سكانية عندما زارها الاسكندر المقدوني في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد لاستطلاع رؤيا آمون، مما هي عليه الآن، نتيجة لعملية التصحر المستمرة منذ عشرة آلاف عام. كما كانت المنطقة مأوى بعض الهاربين من اضطهاد السلطات الرومانية من أتباع المذهب الماني اذ عثر على بعض كتابات هذه الجماعات بين البرديات الجديدة وليست هذه المرة الأولى التي يتم العثور على كتابات مانية في مصر، فقد وجد بعض كتابات ماني المترجمة الى اللغة القبطية أيضاً بين مجموعة البرديات التي وجدت في منطقة الفيوم العام 1930، من بينها بردية تعرف باسم "كفالاي" تتضمن مذكرات كتبها ماني عن حياته. واذا أخذنا في الاعتبار مجمل البرديات التي عثر عليها في مصر خلال المئة عام الماضية - بما في ذلك مخطوطات نجع حمادي القبطية التي تضمنت عدداً من أناجيل العارفين لم تكن معروفة من قبل - لأدركنا ان القرون الثلاثة الأولى للتاريخ الميلادي شهدت جماعات مسيحية عدة وليس نظاماً كنسياً واحداً، بعضها تأثر بالفلسفات المصرية القديمة وبعضها تأثر بالاعتقادات الايرانية أو الهندية، وان اتفقت جميعها في اطار مسيحي واحد. وهذه هي الجماعات التي اتهمتها الكنيسة الرومانية بالهرطقة وحرمت الانتماء اليها وقامت بحرق كتبها ومنع تداولها. ومع هذا استمرت هذه الجماعات تمارس نشاطها سراً، بل وازدادت انتشاراً في بعض المناطق في بلاد المشرق التي كانت تحت سيطرة الامبراطورية الفارسية. في أرض الرافدين والهندوالصين. ومن المؤكد ان الجماعة المانية كانت لا تزال قائمة في بابل عند الفتح الاسلامي في القرن السابع، بل ان الباحثين الاسلاميين ترجموا العديد منها الى العربية أيام الحكم العباسي. وفهرست ابن النديم يتضمن تعريفاً مهماً بالمذهب الماني الا انه مع انتشار الاسلام في هذه البلاد اختفى المذهب الماني من بلاد الشرق العربي وانحصر بعد ذلك في أواسط آسيا وشمال الصين. كانت أرض الرافدين عند بداية القرن الميلادي الثالث منقسمة الى وحدات سياسية عدة كما تأثرت بالصراع المستمر بين القوى السياسية المسيطرة على المنطقة آنذاك والمتمثلة في الامبراطورية الفارسية في الشرق والامبراطورية الرومانية التي امتدت على بلاد الشام في الغرب. والى جانب الصراع السياسي والعسكري بين القوتين، نشأت كذلك صراعات عقائدية بين الديانة الزرادشتية الفارسية من ناحية والاعتقادات المسيحية التي انتشرت في بلاد الرومان من ناحية اخرى، وكان كل طرف يرى انتشار عقائد الطرف الآخر في منطقة نفوذه خطراً يهدد سيطرته السياسية. وفي هذه الظروف ولد ماني - أو مانيخوس - في 14 نيسان ابريل العام 216 في جنوب بابل لعائلة ايرانية وقضى طفولته وشبابه في هذه البلاد، كان أبوه فاتك من أمراء منطقة همدان في جنوب فارس وكانت أمه مريم تنتمي الى العائلة المالكة الفارسية في ذلك الوقت، والتي انتهى حكمها بعد ذلك بثماني سنوات. وكان فاتك رجلاً متديناً يبحث عن الطهارة الروحية، فترك بلاده في همدان وهاجر الى بابل حيث التقى بجماعة "المغتسلة" الذين كانوا يتطهرون بالماء، واعتنق مذهبهم بينما كانت زوجته حبلى في ابنها الوحيد. ومنذ اعتناقه مذهب المغتسلة - وهو مذهب خليط من عقائد مسيحية ويهودية انتشر في بلاد الهلال الخصيب منذ القرن الثاني - امتنع فاتك عن تناول اللحوم أو شرب الخمر كما أحجم عن معاشرة النساء. في تلك الأيام انتشرت العقيدة المندائية في بابل - احدى جماعات العارفين الغنوصية - وهي المعروفة باسم جماعة الصابئة التي تعتبر ان يوحنا المعمدان هو نبيها والتي لا يزال لها اتباع يعيشون في جنوبالعراق وايران والأهواز. ومنذ مولد ماني علمه أبوه عقيدة المغتسلة حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، وحسب ما ورد في الفهرست فإن "ملك جنة النور" ظهر له في الرؤية عن طريق ملاك يسمى "التوأم"، وطلب منه ان يترك جماعة المغتسلة، وان يستعد للقيام برسالته الخاصة التي تقوم على أساس من تعليم الناس قواعد الفضيلة وقمع الشهوات. وتقول النصوص القبطية ان ماني أصبح هو نفسه يسمى بالتوأم منذ هذه الرؤية وانه عاش حياته في عزلة عن الناس يدرس الكتابات المقدسة حتى تمكن من الوصول الى المعارف الخفية ثم جاءه الملاك مرة اخرى عندما بلغ الرابعة والعشرين، وطلب منه الخروج الى الناس ودعوتهم الى عقيدته المانية الجديدة. وتمكن ماني من اقناع والده فاتك وبعض أفراد عائلته بمذهبه الجديد الا انه فشل في نشر دعوته في بلاد بابل، فخرج في رحلة يرافقه فيه أبوه، وسافر الى بلاد الهند لنشر دعوته هناك. وورد في بردية "كفالاي" القبطية على لسان ماني: "عندما اقتربت نهاية العام الأول للملك أردشير الفارسي، أبحرت الى بلاد الهند ودعوتهم هناك الى أمل الحياة واخترت هناك جماعة طيبة". الا ان ماني الذي لاقى نجاحاً كبيراً في نشر دعوته في غرب الهند وشمال الصين، تأثر هو شخصياً بالاعتقادات البوذية لهذه الأقوام. وبعد عام من تجواله عاد الى بلاد فارس على أثر وفاة الملك أردشير واعتلاء شاهبور العرش خلفاً له، ونجح في اقامة علاقات وثيقة مع هذا الملك، خصوصاً بعد ان اعتنق اثنان من أشقائه المذهب الماني. وفي أول لقاء مع الملك الساساني قدم اليه ماني كتاباً خاصاً أهداه اليه باسم "شاهبورجان". فسمح له الملك بنشر دعوته في بلاد الفرس وقربه اليه، فكان يخرج معه في حروبه ضد الرومان حيث اعتقد الملك بأنه يجلب له النصر في المعارك. وتمكن ماني من نشر دعوته بحرية تامة في أنحاء الامبراطورية الفارسية خلال حكم شاهبور الذي استمر ثلاثين عاماً، بل أرسل في هذه الفترة مبعوثين من تلاميذه لنشر دعوته خارج نطاق الحكم الفارسي فوصل بعضهم الى الاسكندرية عند منتصف القرن الثالث، حيث اعتنق بعض المصريين مذهب ماني ونشروه من جانبهم في بلاد المغرب العربي ومن هناك وصل الى اسبانيا. كما وصل مبعوثو ماني كذلك الى سورية لنشر دعوتهم هناك، ومنها انتقلت الى بلاد اليونان والرومان. كان معظم كتابات ماني بالسريانية والآرامية وان كتب بعضها بالفارسية خصوصاً الكتاب الذي أهداه الى الملك شاهبور، ومن كتاباته "الانجيل الحي" و"كنز الحياة" و"الأسرار" و"المعالجات" و"كتاب العماليق" الى جانب بعض الرسائل والمزامير والصلوات. ويقول المذهب الماني الذي انتشر في جميع أنحاء الامبراطورية الفارسية، وظل حتى ظهور الاسلام في القرن السابع من أهم الديانات في أواسط آسيا وشمال الصين، بثنائية الوجود ويرى ان العالم امتزاج بين الروح والمادة أو الخير والشر. ومع ان ماني يذكر في رسائله انه يعتبر نفسه واحداً من تلاميذ السيد المسيح، الا ان مذهبه يحتوي على مزيج من المسيحية والزرادشتية والصابئة الى جانب بعض الطقوس البوذية. وهي العقائد التي انتشرت في أرض الرافدين في تلك الفترة. ويرى ماني ان الطهارة لا تتأتى من مجرد الاغتسال بالماء - كما يذهب المغتسلة - وانما عندما ينفصل الماء الحي عن الماء الميت وينفصل النور عن الظلام . ويقول ماني في قصة حياته المترجمة الى القبطية انه شاهد في منامه "التوأم" الذي توجه اليه ودعاه الى القيام بنشر دعوة عقائدية جديدة لتحقيق الخلاص واعطاء الأمل للبشرية المعذبة. فترك بابل وسافر الى بلاد الهند لنشر دعوته هناك، ثم انتقل الى بلاد فارس عندما سمح له الملك الساساني شاهبور الأول بأن يقوم بنشر الدعوة المانية في بلاده. الا ان كهنة زرادشت - الذين يعبدون النار - وعلى رأسهم كارتير مستشار الملك، كانوا يكنون الكراهية لماني ويخشون ان ينتشر مذهبه في بلاد فارس فيصبح أكثر شعبية من ديانتهم، خصوصاً ان الدولة الساسانية لم تكن قد اختارات ديانة رسمية لها حتى ذلك الوقت، الى جانب انهم كانوا يواجهون خطر انتشار الديانة المسيحية في بلادهم، فأعادوا تنظيم الديانة الزرادشتية على أساس كهنوتي وأصدروا - للمرة الأولى - كتاباً دينياً باسم "افستا" يحتوي على تعاليمهم، الا ان الفرصة لم تسنح لهم للتخلص من ماني الا بعد موت شاهبور. عندما مات شاهبور العام 273 خلفه أولاً ابنه الأكبر هورمزد الذي لم يدم حكمه أكثر من عام، ثم تبعه أخاه بهرام الأول الذي لم يكن مؤيداً للدعوة المانية. وعندما حاول ماني الهرب - بعد ان شعر بالخطر - الى أواسط آسيا أصدر الملك قراراً بمنعه من مغادرة البلاد وتمت اعادته من الحدود. عندئذ أدرك ماني ان نهايته اقتربت وقال لتلاميذه: "انظروا الي ملياً يا أبنائي، فسرعان ما سأفارقكم بالجسد". وبالفعل بعث الملك يطلب من ماني المثول بين يديه، وأخبره انه غير مرغوب فيه بسبب التعاليم الشريرة التي ينشرها، ثم أمر بتقييده بالسلاسل في يديه ورجليه ورقبته واقتيد الى السجن حيث أمضى ستة وعشرين يوماً مات بعدها وهو في الستين من عمره. وقام الجنود بتمزيق جسده كما علقوا رأسه على بوابة المدينة. انتشر المذهب المانوي في أثناء حياة ماني أولاً في الحيرة عندما اعتنق أميرها عمر بن عدي هذا المذهب، ومنها انتقل الى بلاد النبط في شرق الأردن، كما انتشر في سورية والمغرب العربي. واعتبر الرومان ان المذهب المانوي تستخدمه السلطات الفارسية ضد روما، وما أكد هذا الاعتقال التمرد الذي نشب في مصر العام 297 ضد الحكم الروماني بتحريض من أفراد جماعة المانيين، فأصدر الامبراطور الروماني ديوقليتان قراراً في ذلك العام يحرم الانتماء الى الجماعات المانية في أنحاء الامبراطورية، ويفرض عقوبة الحرق بالنار ومصادرة الأملاك على كل من يعتنق هذا المذهب.