شهدت جدة أخيراً، وفي غاليري بيت التشكيليين، معرض التصوير والرسم الشخصي للفنان المصري السكندري المولد مهاب السيد. وهو المعرض الأول له في السعودية والرابع خلال مسيرته الفنية التي شارك عبرها في معارض مشتركة مثل معرض صالون الشباب في قاعة اخناتون في القاهرة 1985 والمعرض الجماعي في أتيلية الاسكندرية 1987 ومعرض شباب الاسكندرية في قاعة الشاطبي 1989 ومعرض مشترك لأثنين من الفنانين: حفر على الخشب وتصوير في قاعة الاخوين والي 1990 وبينالي الشارقة الدولي الثالث 1997. واقتربت لوحات هذا المعرض الأخير من سقف الخمسين لوحة تراوحت بين الاكليريك والحفر، كما تفاوتت زمنياً بشكل واضح. واعتمد أداء الفنان على الاستغراق التخيّلي ومحاولة النفاذ إلى كنه الرؤيا التي تحاول وضع المتلقي في حيّز المشاركة، وأن تنفي عنه في الوقت ذاته مسافة الحياد، معتمداً على اجادته التنويع على وتر اللون والتي كانت أحد أساسيات دراسته للتصحيحات المطبوعة في كلية الفنون الجميلة في الاسكندرية منذ حوالى عشرين سنة. وبدا واضحاً أن الفنان استطاع تطويع لغته البصرية من خلال تداعيات لون واحد أو ألوان عدة متقاربة، وامكان صهرها في أتون التجربة التي لا تخلو من التوتر أو الاشارات. ففي إحدى اللوحات نجد اعتماداً دافئاً على تيمة اللون الأصفر وخارجياته، وكذلك على دواخله التي يعمقها الأخضر المتقصف، والأزرق المتنامي، بينما تظل للأحمر صفة التناهي إلى البعد الوهمي الثالث الذي يؤكد على العمق ويفصّل الأجساد الضاوية التي تتماهى مع الجدران المكسوة بالخضار والانكسار، إلى تداخل الطرق المفضية إلى الأكثر عمقاً وانزياحاً من لغة الواقع المرصودة. في عمل آخر، ثمة أجساد متناحرة تعتمد وضعيات متوترة، مختلفة وأكثر احتفالاً بالحياة والموت، في الوقت الذي لا تخلو من رائحة الانكسار والشحوب، واقتراباً من ايقاع الحياة الذي لا يخلو أيضاً من عناصر الجموح والتعدي على المألوف. وبما يشبه الزجاج المعشّق تنضوي بضعة أجساد خلف المشهد المعلن، ليؤكد غياب رؤوسها غيابها المعنوي، فيما تطل ملامح بشرية متباعدة خلف تلك الظلال وعلى مرأى من الخواء الروحي الذي يضعنا أمام إحدى مشكلات انسان هذا الزمان. وفي عمل آخر تتكاثر السيقان وأرجل الخيل لتشكل نمواً حركياً متصاعداً يفسر الصراع الحياتي الواضح في دوائر غير مستغلقة، فيما تتكاثر التفاصيل التي تشكل وحداتها الصغيرة رمزاً جسدياً أو حركياً متدافعاً فوق استغاثات الأيدي الضامرة. ويعتمد مهاب على منمنمات غاية في التناهي، تؤكد على اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة وتحاول اللعب على وتر التجزيء المكون في النهاية لكلية العمل، ولا يخلو مثل هذا النص من تجذره الاشاري ومحاولته النفاذ إلى المطلق. وتظل حركة الأجساد دائبة في توقفها المثير للانتباه، أو تدفقها لمجاورة مرموزات مختلفة مهمة حتى في تضاؤلها. وهو الخيار الأعمق الذي تمثل في "حفريات" الفنان الضاجّة بالمعاني، والملأى بالمرموزات وأساطير العدالة البشرية التي تتدلى من ميزانها المعلق إلى ما تحت الرؤية المشتركة بين رجل وامرأة، وبناء وانزياح، وإشارية وفراغ، واعماق تتخذ من الغموض وجهها الشفيف. وتبدو لوحة حفر أخرى متأثرة بالرموز الفرعونية على رغم احتشادها بالأقمار والأهلة والفراع الذي تخلفه اليد الممدودة. وتصبح الوجوه أقنعة لها عيون البوم، أو تورّق الأعضاء الداخلية، أو تجابه النتوءات الانوثية في التيه! وفي عمل حفري آخر، يبدو الاكتمال المشهدي ممثلاً في جو طقسي فرعوني خلا من العادية وإن لم يشف من الايحاء بذلك. فالمرأة التي تقف باشتعالها في مواجهة رأس الحصان، تكامل جسد الكاتب الجالس على الكرسي المحفور في البعد في حين يبدو سعف النخلة متوازناً وغير مكترث بالريح، فيما تقبع شراسة الجسد الحيواني أكثر دلالة على المخاطر المنفرجة على أنياب أكثر شراسة مما يبدو. إجمالاً، ترك المعرض انطباعاً حسناً في الوسط التشكيلي السعودي، خصوصاً في ظل تنامي التوجهات الفنية التي تحاول الابتعاد قدر الامكان عن التشخيصية وفي الوقت نفسه الاقتراب من لغة الفن التشكيلي الصحيح.