غضب الدكتور عبدالله المعطاني عندما قلت في مقالة سابقة إنه تخلى عن الغذامي وعني ليلة الهجوم علينا بساحل برايتن. وقال: أنت رجل قصاص تخلط الجد بالهزل والصدق بالكذب.. فقلت: وما الأدب ان لم يكن هذا صدقاً ممزوجاً بكذب.. وحقيقة ممزوجة بخيال. واشتد بنا النقاش، حول هذه النقطة، ونحن على متن الطائرة، متوجهين إلى مؤتمر الفكر العربي في المغرب، وكنا قاصدين الدارالبيضاء. وطالت بنا الرحلة، وتفرع بنا النقاش، والحوار، وهبطت الطائرة، وحينما اقتربنا من الجوازات لوح المعطاني لأحد المسؤولين وقال: نحن قادمون لمؤتمر يترأسه الأمير خالد الفيصل، ويرعاه الملك محمد السادس..! فرحبوا بنا، وأخذوا جوازاتنا، وأنهوا إجراءاتنا بشكل سريع، وحينما خرجنا من بوابة المطار، قال لي: هل تعرف ان هذا هو المطار الجديد...؟! واستغربت السؤال!! ثم انشغل يبحث عن السائق، الذي قدم لاستقبالنا، وراح يتلفت يميناً وشمالاً فلم يره.. ففتح حقيبته اليدوية وأخذ يبحث عن رقم هاتفه الجوال، ثم اتصل به وهو يقول: أين أنت يا أخي..؟ لماذا تأخرت علي..؟ فرد: أنا لم أتأخر، أنا واقف أمام البوابة، فأين أنتم..؟ أخذ المعطاني يلوح بيديه ولكنه لم ير السائق، وصار يتحدث معه ويقول: أين أنت..؟ انظر إلينا، إننا شخصان، وطلب مني أن أرفع يدي وألوح بها مثله، ففعلت..! ولكننا لم نر أحداً ولم يرنا أحد..!! في هذه الأثناء مر بنا رجل يبدو أنه صاحب تاكسي، فقال: هل تريدون الدارالبيضاء..؟ فنهره المعطاني قائلاً: ابتعد.. ابتعد.. نحن في الدارالبيضاء فكيف تقول هل تريدون الدارالبيضاء..؟ فخاف الرجل، وهرب من أمامه، غير أن سائق عربة الحقائب، انحنى وقال بصوت خفيض: يا سيدي أنتم في مراكش، ولستم في الدارالبيضاء..! فصاح المعطاني: نعم.. نعم.. ماذا تقول.. قال: نعم أنتم في مراكش..! نظر إليّ.. ونظرت إليه، قلت هل تسمع ما أسمع..؟ ثم رجعنا إلى المسؤول فقال: نعم بكل أسف الطائرة هبطت بكم في مراكش، بسبب الأحوال الجوية.. وأنتم مخيرون فإما المنام على حساب الخطوط، أو السفر إلى الدارالبيضاء في الحافلة - الغريب أنهم لم يشيروا إلى ذلك ونحن على متن الطائرة أو في أرض المطار -. وكان صديقنا الدكتور عثمان الرواف يتصل بنا من الدارالبيضاء ويسأل عنا فقلنا له: ان الطائرة أخذتنا إلى مراكش فقال: «أنتم يا شيخ تكذبون».. فقال أحدنا قصيدة مطلعها: حاشاك شيخ العلم يا عثمان قد صرت شيخاً والزمان زمان فهددنا بأنه سيهجونا بترنيمة شعرية.. فقلنا رنّم عافاك الله..! ثم قلت للمعطاني: اتصل بصاحبك في مطار الدارالبيضاءودعه يذهب إلى بيته.. أما نحن فمن الأفضل أن نأخذ سيارة خاصة. وفعلاً استأجرنا سيارة بعد قصة طويلة لا يستوعبها المقام.. ولم يكن في جيوبنا نقود مغربية. ومررنا على بوابتين من بوابات الطرق بعد مراكش مباشرة حيث تدفع ضريبة الطريق. فدفع السائق ثم عبأ السيارة بالوقود، ولم يعد في جيبه شيء، وحينما أقبلنا على الدارالبيضاء ووقفنا عند عبور البوابة لدفع الضريبة وحيث انه لا نقود مغربية معنا، تحدث المعطاني الى محاسب البوابة بلباقة، ولطف قائلاً: ليس لدينا نقود مغربية.. معنا عملة سعودية، ودولار، ونحن ضيوف مؤتمر الفكر العربي، الذي يقام تحت رعاية الملك.. نحن ضيوف الملك. فرحب بنا أجمل ترحيب، وفتح لنا الطريق.. وقبل أن تتحرك السيارة قال: اسمع يا أخ نحن ليس معنا نقود كما تعلم، ونحن مقبلون على البوابة الأخرى، فهل لديك عشرون درهماً ندفعها..؟!! فاعتذر الرجل بأدب.. وضحكت وقلت: ما هذه القرصنة يا أخا هذيل..؟ ففهمها على غير ما أردت، أو أنني اردتها فلم أبدها صراحة، وأخذ يهاجم مسيلمة، ووادي مسيلمة، ولم نصل إلا الساعة السادسة صباحاً، وكانت ليلة أمضيناها في الطريق بالأحاديث، والمسامرة، ونمنا ولم نفق إلا قرابة الساعة الثانية عشرة. وكان لدينا اجتماع بفاس فرأى المعطاني ان أفضل الوسائل للسفر إلى فاس وحضور الموعد دونما تأخير هو القطار.. وقال إن المسافة ساعة ونصف، ومن ثم فإن لدينا متسعاً من الوقت.. وفعلاً ركبنا القطار، وبعد أن جلسنا في المقصورة، اكتشفنا أن الرحلة تستغرق قرابة الأربع ساعات، وفقا لما هو مكتوب في التذكرة. فأسقط في أيدينا. قال المعطاني: ماذا ترى..؟ قلت: لو ذهبت الى سائق القطار، وقلت له: نحن ضيوف الملك.. فإنه ربما زاد السرعة ولن يتوقف في أية محطة حتى نصل. فنظر إلي في غضب وعبوس، وسكت..! وحينما وقف القطار في أول محطة صادفتنا، أخذ حقيبته ونزل، فتبعته ثم أخذنا القطار العائد وفاتنا الموعد.. في اليوم الذي يليه عدنا الى مراكش عن طريق القطار، وركب معنا بالصدفة بعض المثقفين المغاربة، ودخلنا في حوارات ثقافية، وأدبية، وسياسية، حيث أحاطهم المعطاني علماً بأننا جئنا لمؤتمر الفكر الذي يترأسه الأمير خالد الفيصل، ويرعاه الملك، فنحن إذاً ضيوف الملك.. واحتدم الجدل حول: ثقافة التغيير وتغيير الثقافة، «عنوان المؤتمر»، حيث يرى البعض منهم أنه لا فرق مادام أن المسألة مسألة تغيير، وتبديل.. وامتد بنا الحوار حتى توقف القطار..!! استقبلنا الدكتور عثمان في المحطة وسلمنا فوراً ترنيمة هجائية مطلعها «إحنا أعطيناك». «حينما قابلنا في المؤتمر سمو الأمير تركي الفيصل سفيرنا، ورئيسنا في البعثة بلندن، رحب بنا وقال: أنتم ضيوفي، وستعودون معي في الطائرة.. نظرت إلى المعطاني وخشيت أن يقول نحن ضيوف الملك..! ولكنه سكت. شكرنا الأمير واعتذرنا له عن السفر معه، وقلت إننا سنعود الى فاس في مهمة. ولم أذكر للأمير قصة القطار.. والعودة من أول محطة، حيث أضاعنا الدكتور المعطاني.. أو ضيف الملك كما يطلق على نفسه.!!