قيمته، لدى نفسه، انه هادئ الطبع، يحسن استقراب من يخاطبه، يتجنب المواجهة، يسجل المواقف ضمن هوامش المبادئ، يقرأ جيداً الشخصيات والسياسات، يعرف حدوده، يتبنى التوازن أساساً في طروحاته، يتحاشى التهور والاعتباطية، ولا يمانع الانتظار الى حين الوقت الملائم لدور له فيما يتخذ الاستعدادات. الأمين العام للامم المتحدة، كوفي انان، وظف كل هذه الصفات في جولته على الأردن ومصر ولبنان وسورية وفلسطين واسرائيل، فكانت الزيارة، كما أرادها، بلا مبادرات ولا انجازات، لكنها لم تخل من المفاجأة. مفاجأة كوفي انان جاءت في اطلاقه معركة "العداء للسامية". أعطى انان لكل طرف حادثه جزءاً مما يريده، فأبحر بين الأمواج الشرق أوسطية طبقاً لشخصيته وسيرته المعروفة بتجنب اجتذاب أعداء. تعارف واستمع وأوصل رسائل ووضع حجر الأساس لمكان له مستقبلاً. قادة المنطقة، بلا استثناء، اغرقوه بالمديح لإنجازه الاتفاق مع العراق. وتجنبوا إحراجه. سلاح الجاذبية الذي شهره كوفي انان مكّنه من تسجيل مواقف كانت ستثير الانتقاد لو جاءت في أجواء نفور. إلا انه سلاح ذو حدين، اذ انه أعفى الأمين العام من التدقيق في ما فعل ولم يفعل، وأوقع الصدمة عندما تصرف بما يتنافى مع الانطباع عنه. ضمن العناوين الرئيسية لما فعله انان انه تمكن من ارضاء لبنان وسورية واسرائيل في اطار القرار 425 القاضي بإنسحاب اسرائيل من لبنان، كما تمكن من إرضاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو في اطار المسار الفلسطيني - الاسرائيلي من المفاوضات. لسورية، أعطى الأمين العام أولاً إبراز مبدأ، الأرض مقابل السلام على اساس القرارين 242 و338 كأساس لأية تسوية. وثانياً، التركيز على ان السلام يجب حتماً ان يكون سلاماً شاملاً وسيبقى ناقصاً وعابراً اذا لم يضم المسار السوري. وثالثاً، اعلانه انه لمس لدى القيادة السورية رغبة جدية في استئناف المفاوضات وقراراً جدياً بأن السلام خيار استراتيجي لها. ورابعاً، اقراره بارتباط المسارين، السوري واللبناني، من المفاوضات مع اسرائيل، وخامساً، تكراره أن السلام في المنطقة من دون سورية "مستحيل"، وسادساً، نقل انان الى اسرائيل مفهومه للمواقف السورية، تلك المتعلقة بالقرار 425، وتلك المعنية بالسلام كخيار استراتيجي وسياسة جدية. وما قدمه انان للبنان في اطار القرار 425 جاء ايضاً في محطته الاسرائيلية حيث أعلن عن ثقته بالحكومة اللبنانية والجيش اللبناني. وقال ان "لغة القرار 425 واضحة جداً"، وان لبنان قادر على السيطرة على الجنوب في حال انسحاب اسرائيل منه "فالحكومة اللبنانية فاعلة، والجيش مهني"، و"أي تنسيق بين الحكومة اللبنانية وجيرانها عائد اليها". كذلك، نفذ الأمين العام وعده للبنان بطرح موضوع المعتقلين في السجون الاسرائيلية، كما تعهد لعائلات المعتقلين الذين استقبلوه في مطار بيروت وودعوه، عبر أخٍ لأحد المعتقلين اثناء لقاء انان بالطلاب في الجامعة الاميركية في بيروت، بحمل ملف المعتقلين كموضوع يتعلق بحقوق الانسان ويهمه شخصياً. للسلطة الفلسطينية تقدم الأمين العام بالدعم الكبير لها وإعلانه ان "قضيتكم - حق تقرير مصير حقيقي للشعب الفلسطيني - قضيتنا". وشدد على مبدأ الأرض مقابل السلام، وتفهم مصادر اليأس والإحباط، وأغرق الرئيس ياسر عرفات بالمديح والإطراء، بل انه قاطع بنيامين نتانياهو اثناء مؤتمر صحافي لهما ليشير الى ان مشاعر "الارتباط" بالأرض، التي عبر عنها نتانياهو، لمسها انان لدى عرفات بالمقدار ذاته، ودعا الى "مساعدته" محذراً من إفرازات "ضغوط شديدة" عليه تؤدي الى "إضعافه". ولاسرائيل اعطى كوفي انان ود الأمين العام للامم المتحدة والاستعداد لفتح صفحة جديدة في العلاقات تتجاوز رفض اسرائيل تطبيق قرارات أساسية للمنظمة الدولية. مدح انان استعداد اسرائيل تطبيق القرار 425 وتحاشى الضغط على نتانياهو لتطبيق القرارات المعنية بسياسة الاستيطان الاسرائيلية، كما تحاشى احراجه بما يشابه احراج وزير الخارجية البريطاني، روبن كوك، له بزيارته جبل أبو غنيم في القدسالشرقية. لبى انان إصرار الحكومة الاسرائيلية على عدم قيامه بزيارة الى "بيت الشرق" للقاء المسؤول عن ملف القدس في السلطة الفلسطينية، السيد فيصل الحسيني، باعتبار "بيت الشرق" المقر الرسمي للسلطة الفلسطينية وبمثابة "عاصمة" فلسطينية في القدس. أصر على لقاء الحسيني في مقر الاممالمتحدة في القدسالشرقية، فيما عقد المحادثات الرسمية مع المسؤولين الاسرائيليين في القدس الغربية. و"للتوازن" استقبل انان عمدة القدس المتطرف ايهود اولمرت. فالامين العام التقى الاسرائيليين في مؤسساتهم الرسمية في القدس الغربية وتحاشى لقاء الفلسطينيين في مؤسساتهم الرسمية في القدسالشرقية. وهذا ما جعل فيصل الحسيني يتساءل "هل وجودي انا الفلسطيني في القدس هامشي ووجود الاسرائيلي في القدس اساسي"؟ الأهم ان كوفي انان، في سعيه الى تهيئة الاجواء لنقل انتقادات الأكثرية الساحقة في الرأي العام العالمي وبين اعضاء الاممالمتحدة للسياسات الاسرائيلية الى الاسرائيليين، أفرط في الاعتذار وألحق الإهانة بالدول العربية والاسلامية وغير المنحازة التي سبق واتخذت موقفاً من الصهيونية في الاممالمتحدة. كوفي انان تطوّع بما لم يكن مجبراً على أخذ موقف تجاهه واتهم دولاً اعضاء في الاممالمتحدة باتخاذ مواقف معادية للسامية. قال ان القرار الذي تبنته الجمعية العامة عام 1975 الذي ساوى بين الصهيونية والتمييز العنصري انطلق من "العداء للسامية" وأدى الى "نقطة دنيئة" في العلاقة بين الاممالمتحدة واسرائيل. ودعا الى توظيف فرصة الاحتفاء بالذكرى الخمسين لإعلان حقوق الانسان العالمي "لاستنكار العداء للسامية"، كما أعرب عن أمله بأن تكون الذكرى الخمسين لتأسيس اسرائيل مناسبة لأن "تنظر اسرائيل الى الاممالمتحدة كعربة ووسيلة لتحقيق القيم العالمية للشعب اليهودي". تعهد انان بصفته الأمين العام للامم المتحدة بفتح صفحة جديدة وحقبة جديدة في علاقات الاممالمتحدة باسرائيل. وطالب "بتصحيح خطأ" استبعادها عن المجموعات الاقليمية بما يمكنها من ان تترشح لمقعد في مجلس الأمن الدولي. ودعاها الى المساهمة في قوات حفظ السلام. كل هذا العطاء كان بهدف تهيئة الأرضية للتقدم بانتقادات للسياسات الاسرائيلية، بحرص شديد على تجنب استفزاز الاسرائيليين، كي يتمكن كوفي انان من عرض شكاوى الأكثرية الساحقة في الاممالمتحدة وفي الرأي العام العالمي. عرض الشكاوى، باعتذار، قائلاً:"لا يسرني ان أتقدم أمامكم بقائمة شكاوى للأسرة الدولية ضد اسرائيل، انما اعتقد ان المهم لكم، يا أصدقائي الاسرائيليين ان تحاولوا ان تفهموا ان هذه الشكاوى لا تأتي وكأنها ظهرت في سماء زرقاء". قال ان "في رأيهم" - الأكثرية - تقوم اسرائيل بأعمال استفزازية مثل المضي في الاستيطان، و"انهم يأسفون لاجراءات اخرى تسلب الفلسطينيين بيوتهم وأرضهم ووظائفهم ورخص إقامتهم وحتى كرامتهم". لم يقل ان الاستيطان غير شرعي بموجب قرارات الاممالمتحدة ولم يقل انه، هو وليس هم، يأسف لسياسة انتزاع الأرض والكرامة. كوفي انان لم يحد طوال جولته عن تكرار الدعوة للتعاون الكامل مع الولاياتالمتحدة بصفتها راعية السلام. بدا احياناً انه يقوم بتسويق الادارة الاميركية وطروحاتها كأنه مكلف بأن يقوم بعلاقات عامة في المنطقة لحساب الولاياتالمتحدة. الا انه ايضاً لم ينحرف عن المبادئ الاساسية لقرارات الشرعية الدولية وتمكن من نقل اكثر من رسالة مهمة بين الاطراف، بلا تكليف رسمي، وانما بتوظيف هيبة المنصب وتأثيره. تأثير المنصب بدأ يتسرب الى هذا الرجل المعروف بشدة تواضعه، لا يزال كوفي انان بالغ اللطف واللياقة، إلا انه بدأ يفقد قليلاً من تواضعه الذي اكتسب له بعداً انسانياً مميزاً. بدأ يحتج على الانتقاد، فيما كان حريصاً على فهم مصادره لاستدراك الاخطاء وللتعرف الى آراء خارج بوتقة الدائرة المحيطة به. كان الغرور عدوه لا يسمح به حتى بين الموظفين القريبين اليه، فأصبح غير دارٍ لعوارض من هذا القبيل حوله. كان يسأل عن الاحوال الشخصية للآخرين، كيف هم وكيف عائلاتهم، فأصبح يتكلم عن ردود الفعل نحوه وعن انجازاته مترفعاً عن الدخول في تفاصيل دون المنصب. المسؤولة عن التشريفات، ناديا يونس، سببت أكثر من "حادثة" ديبلوماسية بسبب اقحامها نفسها على الاجتماعات الرسمية لدرجة اغضاب المسؤولين في الأمن والبروتوكول في دمشق واتخاذهم اجراءات ضدها، وكوفي انان لم يدر. سببت "حادثة" اجتماعية مع البروتوكول والصحافة في غزة، وكوفي انان لم يدر أو لم يبال. كان كوفي انان يقظاً ومتنبهاً لتفاصيل أقل اهمية بكثير وكانت لديه قدرة هائلة على قراءة وجوه الناس، فأصبح اليوم مجتهداً في قراءة السياسات والشخصيات القيادية. كل هذا لا يسلب الرجل من ميزات عديدة من صفاته. فهو ذكي جداً، حازم وصبور في آن، لديه حس العدالة والاخلاق، ويريد ان يلعب دوراً لتعزيز الديبلوماسية الدولية. زيارته الى المنطقة استثمار جيد مستقبلاً، له وللمنطقة، لم يسقط في مطبات كبرى ولم يتجاوز قانونياً الشرعية الدولية. فهو اثبت صلابة معدنه في الامتحان، وأولى النتائج الملموسة ستتبين بعد عودته الى نيويورك بعد ان تتضح المواقف الحقيقية ازاء القرار 425. فتنفيذ هذا القرار ينطوي على تفاصيل دقيقة في معايير اكثر من علاقة اقليمية وفي معايير علاقة الاطراف الاقليمية بالاممالمتحدة. فإذا لعب كوفي انان دوراً في هذا الاطار قد يكون في امكانه ان يضيف الى سجله الانجاز الثاني في لبنان بعد انجازه في العراق. اما وقد فتح معركة "العداء للسامية" في علاقة دول المنطقة بالاممالمتحدة، فإنه غامر في متاهات جديدة قد تطيح، أي انجاز وكل انجاز. فكوفي انان أعلن حرباً لم تكن أبداً في الحساب. والمعركة لتوها بدأت.