عبر نافذة حجرتها، تفتح الصبية عينيها، كل صباح، على شعاب متاهتها الكبيرة: وراء سياج الحديقة مباشرة تسكن فصيلة مرحة من البلابل، لا تشدو لأحد سواها، والى اليسار تعيش على شجرة التوت، العملاقة، عائلة دود القز، في الليل، تنصت، الى هسيس أفرادها تدوزن، بدأب، خيوط الحرير حول أعناقها، لكن الصبية اهملت، في الفترة الأخيرة، بلابلها وديدانها وفراشاتها ويعاسبها، وراحت تفكر بموضوع "الانشاء" الذي طلبت المعلمة منها، تحضيره قبل حلول عيد الفطر. سألت نزلاء قصرها عن فحواه، وشرح كل منهم تفاصيله، بأمثلة متنوعة وبسيطة، لكنها ما زالت عاجزة عن ادراكه. ها هو نباح الكلب، الساكن عبر الشارع، يخرجها من دوامتها. ويفجر في نفسها حنقاً ممزوجاً بالخوف، لكأنه المخلوق الوحيد الذي يقصيها عن موضوع "الانشاء"، ويشدها إليه رغماً عنها. حينما أخبرت المربية بأن كلب الجيران هذا، ليس سوى ذئب متخفّ بثياب كلب، انفجرت بالضحك، ما أجبر الصبية على الصمت وكتمان السر الذي كادت تصارحها به. كم من مرة لاحقها ذلك الكلب عند ذهابها الى بيت جدتها، ولن تنسى أبداً تلك اللحظات التي ظهر فيها على حقيقته، بعد أن طرقت الباب مرات اكتشفت بأنه لم يكن مقفلاً، وحينما دخلت حجرة نوم جدتها، واقتربت من سريرها، تنفست رائحة الذئب القوية، ولمحت أنيابه الحادة مخفية تحت اللحاف السميك. يتضوع القرنفل، بعبيره الشفيف، وتتشابك فوق عيني الصبية ألوان الربيع المبثوثة في حديقة قصرها، لكنها، رغماً عن ذلك، تظل ملتصقة بنافذتها. تسحب كتاباً مصوراً كبيراً، مرمياً قربها، كان أبوها قد اشتراه لها، كي يعينها على فهم موضوع "الانشاء". تقلّب صفحاته، دون تركيز، تطالعها صور اطفال شبه عراة، ببطون منتفخة، وعلى صفحات أخرى، اناس في العراء، متحلقون حول نار ضئيلة. تسترجع أحاديث أبيها الطويلة المتعلقة ب "الانشاء"، والتي حفظتها عن ظهر قلب، فتغمرها الرغبة بالذهاب الى طاولتها والبدء بكتابة واجبها المدرسي، لكن نباح الكلب، المفاجئ، يشدها ثانية الى كرسيها. ستظل تكرر لأبيها ان الذئب المتلبس بثياب الكلب، هو المسؤول عن مرض أمها، اذ شاهدته يوماً يلعق يدها، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى راحت الأم تتهم الأب بنواياه في قتلها، ظناً منه بخيانتها له. سيضطر الأب الى إشراك جميع من في البيت لمساعدته في تقييد حركة الأم، بعد أن هجمت عليه بالسكين. سيقول الطبيب، بعد نقلها الى المستشفى، انها أصيبت بالشيزوفرينيا، سيقول الأب باكياً، انها فقدت عقلها. ستقول جدتها إن جنياً دخل فيها، لكنها في اليوم التالي شاهدت الذئب يأكل مخاً كبيراً بتلذذ كبير. قال الأب لجدتها، وهو يداعب، خصلات شعرها الناعم: "كم تشبه أمها". بعد مضي شهر على مرض الأم، أخذها الأب الى المستشفى، وحينما أحضرت الأم، شاهدت الصبية مخلوقاً غريباً، مفزعاً، يجلس أمامها، بعينين زائغتين حمراوين، وشحوب بارد، بين وقت وآخر، كانت الأم تنفجر بضحكة جريحة، حادة، وتندفع للامساك بابنتها، لكن اذرع الممرضتين كانت تعيدها الى كرسيها. قبل خروجهما من المستشفى، سألت الصبية أباها عما جرى للأم: "انها الأدوية ورجات الكهرباء". وحينما حل موعد الزيارة الثانية، رفضت الذهاب مع أبيها، وفضلت الجلوس الى جوار نافذة حجرتها. لن تكف الجدة عن ترديد حكاية زواج أبيها بأمها: كيف ظل ذلك التاجر يلاحق ابنتها بسيارته المرسيدس، كلما خرجت من المدرسة، والذي لن يكف عن ارسال الوفود لطلب يدها، محملين بهدايا أثمن، كلما رفض رجاؤه. أمضت المربية نهار البارحة، كله، معها، تحدثها عن اناس، يدخلون ضمن موضوع "انشائها"، حدثتها عن أصدقاء ابنائها، عن أقاربها، عن اصدقاء اصدقائها، وظلت الصبية تطلب منها اعادة حكاياتها مرات، حتى أصبحت قادرة على ترديدها حرفياً. كانت المربية جد حريصة، على ارضائها، وعلى تحقيق رغباتها، بل هي تأمل بملء فراغ الأم، لكن الصبية ظلت منغلقة على أسرارها، فالمرأة التي تقيم في المستشفى لا تمت بصلة لأمها، والجدة لم تمت، ميتة طبيعية، بل أكلها ذئب الجيران المتخفي بثياب الكلب، والحرير لا يأتي من الصين بل من شجرة التوت الواقعة خلف الحديقة. يدخل الأب الى حجرتها، فتغمض الصبية عينيها، يلامس، بحنو، وحذر، شعرها، يقبّل جبهتها، وينسحب ببطء الى الطابق الأرضي. تنهض من سريرها، بخفة، تشعل المصباح المنضدي، تفتح دفتر واجباتها المدرسية، تخط في منتصف الصفحة الأولى عنوان الموضوع الانشائي، الذي ارقها كثيراً: "عائلة فقيرة"، ثم تنتقل الى سطر جديد، لتبدأ في نقل أفكارها، بتصميم مطلق: "كانت هناك، في قديم الزمان، عائلة فقيرة، وكان الطباخ فقيراً، وكانت المربية فقيرة، وكان السائق فقيراً، وكان الحدائقي فقيراً، وكان...".