لم يفعل الفكر الاستراتيجي السياسي العربي في الإعداد للحرب سوى تحديده الأهداف العامة، وهو منع تقسيم فلسطين أو تأسيس رأس جسر صهيوني فيها، وكانت طبيعة العمل الاستراتيجي تقضي لتجديد الأهداف والوسائل الموصلة الى هذا الغرض، ولأن القيادة السياسية العامة في مستوى الجامعة العربية لم تفعل ذلك، وحدث ذلك الانفصام بين القيادتين السياسية والعسكرية . فإذا أضفنا إلى ذلك عدم كفاءة القيادة العسكرية العربية للقيام بواجباتها كقيادة عامة، وعدم الثقة بها من قبل بعض الاطراف المشاركة فيها، توضحت أسباب غياب استراتيجية عسكرية عربية، وأسباب إهمال مبادئ الحرب مثل: الحشد، المبادأة، المفاجأة، الحركة، التعاون، وحدة القيادة، وتغيير مناطق عمليات ومحاور بعض الجيوش، ولهذا، انطلق كل جيش عربي يعمل بمفرده، ولكن مفهوماً عاماً كان يسود مسرح العمليات، وهو التقيد بالحدود الجغرافية التي رسمها قرار التقسيم، باستثناء الجيش السوري الذي عمل في منطقة هي ضمن حدود "الدولة اليهودية"، والجيش المصري الذي شملت منطقة عملياته جزءاً من تلك الدولة، وفي إطار هذا الواقع، سارت العمليات الحربية، التي كانت وقائعها ثنائية التركيب، ولم تكن جماعية. نصب الزعماء السياسيون أنفسهم آنذاك قادة، في حين أنهم لم يكونوا كذلك، ولم تكن لديهم تجارب سابقة في هذا المجال، ولا جيوش كبيرة تدربوا على قيادتها، وكان بعضهم يدور في إطار الانتداب أو النفوذ البريطاني أو الفرنسي أو الاميركي، وبذلك لم تتوافر لهم مقومات القيادة الاستراتيجية. وهكذا ذهبت الجيوش العربية إلى حرب مجهولة، لتواجه عدداً لا تعرف عنه ما يكفي لمواجهته والغلبة عليه، في حين ارتدَت الحرب في أجهزة الإعلام العربية مظهر الحماسة، واستُخدمت لتعظيم الانظمة الحاكمة، أو التمويه، أو المبالغة في الانتصارات الى حد التضليل. وأدى ذلك كله إلى الاستهانة بالعدو وقوته العسكرية والسياسية، وإلى تغليب ظاهرة استعراض القوة على استخدام القوة، وإلى الاعتماد على صداقة بريطانيا والولايات المتحدة، وعلى أن القضية سياسية أكثر منها عسكرية، وأن الحل سياسي أكثر من كونه عسكرياً. واختلطت عوامل السذاجة والخضوع للنفوذ الاجنبي وتشابكت العقلية التي قادت الحرب في مختلف المستويات، ويشار إلى أن هذه العوامل كانت تختلف، في تأثيرها وفعلها، ما بين قيادة وأخرى. كان الفكر الاستراتيجي العربي في حال قصور ذاتي، زادته النيات والسياسات المتضاربة عجزاً، ويبدو أنه لم يكن على قدر الحدث الكبير الذي واجهه، وثمة أمثلة على ذلك، برزت في مرحلة الإعداد للحرب وفي أثنائها. إن مراجعة نصوص قرارات مجلس الجامعة واللجنة السياسية وبياناتهما، إضافة إلى خطب المسؤولين العرب وتصريحاتهم، تدل على طغيان الحماسة والعاطفة والبلاغة اللغوية وضعف البصيرة الاستراتيجية والطفولة السياسية أكثر مما تدل على العزم والحزم والفكر العلمي، خصوصاً أن الأمر يتعلق بحرب ومواجهة لقرار دولي ولقوى كبرى مؤثرة. ومن وقائع هذه الظاهرة، ما أعلنه رؤساء الحكومات العربية، بأن شعب فلسطين سيعلن الحرب، وأن الحكومات العربية ستعمل لدفع العدوان. لا شك في أن كشف الحكومات العربية عن عزمها على اللجوء إلى العمل المسلح لدفع العدوان، قبل أن تباشر اتخاذ اي تدبير مشترك، هو طفولة سياسية، وانسياق وراء المظهر، وفقدان للبصرية الذاتية، وينطبق ذلك أيضاً على ما سُمي "القرارات السرية" التي اتخذها مجلس الجامعة في بلودان 8 - 12/6/1947 وهدد بتطبيقها، واستخدم هذا الغموض "المرعب" في مناسبات عدة، وحينما كشف الغطاء عن تلك القرارات، تبين أنها لا تعدو أن تكون تدابير ديبلوماسية رقيقة، لا يمكنها أن تؤثر في مجرى الاحداث ومصير القضية ونتيجة المعركة. وثمة مثل آخر، يدل على ضعف البصيرة، وذلك عندما قبلت الحكومات العربية وقف القتال الهدنة الأولى. فما أن انقضت مدة الهدنة اربعة أسابيع، حتى اتضح أن قرار قبولها كان خطأ، إذ إنه غيّر مجرى الحرب، حين نقل العدو حال الهجوم العربي إلى دفاع. وأدركت الحكومات العربية، بفعلها هذا، أنها اوقعت نفسها في خطأ استراتيجي، وعلى رغم ذلك انقضت مدة الهدنة من دون أن تستفيد الدول العربية منها، فلم تجتمع القيادات العسكرية العربية، لتنظر في حالات جيوشها، ولتقيّم الوضع العملياتي والمتغيرات التي طرأت، وتقيّم النتائج وتستخلص الدروس، وتضع خطة جديدة، تواجه بها المرحلة المقبلة عند انتهاء مدة الهدنة. إلى ذلك، لم تفعل الحكومات العربية ما يجب أن يفعله كل بلد في حال حرب، من تعبئة عامة وتسلح وحشد للطاقات. بيد أن أقسى ما تجاهلته هذه الحكومات هو تجنبها اتخاذ قرار حاسم في وضع القيادة العسكرية العامة، وإعادة تنظيمها، وتحديد مهماتها وصلاحياتها، وربط جيوش البلدان العاملة في فلسطين بها، والتخطيط للتعاون والتنسيق بين تلك الجيوش في ميادين القتال، وتحديد الطرائق وتوفير الوسائل لتحقيق التعاون والتنسيق. وحينما اجتمع رؤساء الحكومات يوم 3/7/1948، أي قبل انتهاء مدة الهدنة بخمسة أيام، بحثوا في أخطر أمور الحرب، في وقت لم يعد فيه متسع لاتخاذ أي تدبير جذري مناسب، وعندما تداولوا أمر تعيين "قائد فعلي للجيوش العربية" لم يتفقوا، وعرضوا على مصر تعيين قائد منها لقيادة الجيوش العربية، فاعتذرت، ولم توافق في الوقت نفسه، على وضع قواتها تحت الإمرة الفعلية لقائد غير مصري. نظر رؤساء الحكومات في حال جيوشهم في مسرح الحرب، وعلى رغم أنهم وصفوا المصاعب التي تعانيها هذه الجيوش، وعبروا عن عدم استطاعة دولهم تعزيز قدراتها العسكرية إلى أكثر من الحد الذي بلغته، قرروا عدم تمديد الهدنة، للاسباب نفسها التي دخلت الجيوش من أجلها فلسطين. لم يكن أمام الجيوش العربية، والحال كذلك، إلا أن تتخذ وضعية الدفاع، فتنازلت بذلك للعدو عن حرية المبادأة، وأعطته الفرصة ليقاتلها فرادى، فاستفرد الجيش الاسرائيلي بها، الواحد تلو الآخر. لا ريب في أن قرار رؤساء الحكومات باستئناف القتال جاء متأخراً على الصعيد العسكري، بمثل ما كان قرارهم بدفع جيوشهم الى دخول فلسطين متأخراً على الصعيدين العسكري والدولي، على رغم أن المدة بين تاريخ إعلان بريطانيا 13/12/1947 أنها ستسحب قواتها من فلسطين في 15/5/1948، وبين حلول موعد الانسحاب كانت كافية للتفكير والتدبير، غير أن هذه الحكومات لم تجد في السعي لتدارك الأمر وتأمين النواقص، وإنما سيطرت عليها روح التواكل، وعدم القدرة على التقرير والحسم، فلم تلجأ إلى التخطيط والتدبير على المستوى القومي، ولم تسلح جيوشها وتعدها للقتال خارج حدودها. وإذا ما استعرضنا تاريخ الأحداث والوقائع والأدبيات والوثائق الخاصة بحرب 1948، نستطيع القول إن السياسة ورجالها كانوا مسيطرين على مفهوم الحرب وأهدافها، دون النظر إلى مدى قدرتهم ونجاحهم فيما فعلوه. لكن مسيرة الأمور والوقائع، طوال الحرب، سواء في مرحلة الإعداد أو في مراحل القتال والهُدن، تثبت أن رجال السياسة كانوا يتدخلون لفرض ارادتهم على الجانب العسكري، وإذا كان إتباع الجهاز العسكري وشؤون الحرب والسلام للسلطة السياسية هو التنظيم السليم والطبيعي، فإن إهمال السلطات السياسية العربية لأجهزتها العسكرية من حيث تسليحها وتدريبها، ومن ثم استدعائها إلى دخول حرب لم تستعد لها، يتجاوزان طبيعة ارتباط الجهاز العسكري بالسلطة السياسية. وهو ما أدى، في نهاية المطاف، إلى حدوث تصدع في توازن السلطات في بعض الدول العربية التي اشتركت في الحرب، تمثل في انقلابات أو محاولات انقلاب عسكرية وقعت في تلك الدول. استشار السياسيون القادة العسكريين بشأن الوضع في فلسطين، على رغم أن الاستشارة جاءت متأخرة، فأجمعت كلمتهم على نصح القادة السياسيين بعدم التورط في حرب نظامية في فلسطين، فإذا لم يكن بد من ذلك، فلا مناص عندئذ من إقامة قيادة موحدة أو مشتركة لجيوشهم المبعثرة، حتى تحيل ضعفها، إلى قوة، وحتى يمكن التنسيق بينها، وممارسة العمل المشترك على جبهات وخطوط محيطة بالعدو، وهو مكمن قوتها المستمدة من أوضاعها الجغرافية الملتفّة حول مسرح الحرب، حتى لا تتيح للقيادة الاسرائيلية ممارسة العمل ضد كل جبهة على حدة. لكن القيادات السياسية أهملت نصائح العسكريين، فلا هي اجتنبت التورط في حرب نظامية، ولا هي استعدت لها، ولا هي أقامت القيادة الموحدة أو المشتركة. وفي إطار الاستشارة ايضاً، حدد رؤساء الاركان حجم القوات اللازمة للحرب بست فرق برية وستة أسراب جوية، وهو الحد الادنى من القوة المطلوبة لمواجهة الجيش الاسرائيلي، وللقيام بعملية هجومية. ولا شك في أن رؤساء الاركان كانوا يعرفون أن جيوشهم لم تكن تملك، مجتمعة، قوة جاهزة تكفي لحشد الفرق الست والاسراب الستة، إذا لم يضمنوا قيام حكوماتهم باتخاذ تدابير الاستعداد للحرب، من تعبئة وحشد طاقات، وشراء اسلحة وذخائر. وعندما اعترضت اللجنة السياسية على حجم ما طلبه رؤساء الاركان من قوات، لم تبن اعتراضها على استكثار ما طلبوه، بقدر ما بنته على اقتناعها بأن القضية لا توجب تدبير كل هذه الحشود، أو اتخاذ كل هذه الاستعدادات، إذ يكفي حشد بعض القوات قرب حدود فلسطين، وتظاهرها بالعزم على التدخل، لملء قلوب الصهيونيين رعباً، وحث الدول الكبرى على التدخل لمصلحة العرب، اتضح لنا مدى اتساع الهوة بين الفكر السياسي والفكر العسكري. وتخلصاً من هذه الهوة، أخذ العسكريون يكتبون ويصرّحون، بما نصحوا به حكوماتهم، وبما اتخذوه من مواقف معارضة لفكرة الحرب، محاولين تبرئة ذممهم من المسؤوليات والاخطاء التي ألقيت على عاتقهم، وثمة أدبيات كثيرة في هذا المجال. هكذا انتهت حرب 1948، وفي ختامها طويت من سماء فلسطين وأرضها اعلام جيوش مصر وسورية والاردن والعراق ولبنان، وجيش الانقاذ وجيش الجهاد المقدس، وقوات داعمة من اقطار عربية أخرى، في حين اقامت الصهيونية "دولة اسرائيل" بقوة السلاح على الارض التي خصصها لها قرار التقسيم، اضافة إلى اراضٍ أخرى اغتصبتها من مساحة "الدولة العربية". شهدت حرب 1948 تدخلات ووساطات دولية كثيرة، أفضت إلى فرض هدنتين، وأظهرت أثر استراتيجيات الدول الكبرى وسياساتها في فرض ارادتها بشأن قضية فلسطين وترسيخ أسس اسرائيل وقهر العرب، وسيكون لهذه الاستراتيجيات والسياسات، وتطوراتها، أثرها الفاعل في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي والحروب التي وقعت في إطاره لاحقاً. وليس بعيداً عن الحقيقة أن نقول إن حرب 1948 كانت النهاية لكل ما سبقها من أحداث، بدءاً من العام 1882 حين انطلق التسلل الصهيوني إلى فلسطين، كما كانت خط البداية لكل ما تلاها من حروب ومعارك. كانت حرب 1948 الأساس الذي استقرت عليه دعائم الصراع ومفاهيمه وتطوراته وأشكاله وأساليبه وأنواعه لعدة عقود من السنوات اللاحقة. ونختم الحديث بقولتين لضابط بريطاني وآخر اسرائيلي. قيّم أحد الضباط الانكليز حرب 1948 بأنها "كانت حرباً قصيرة، تميزت بتدخل من الخارج، وبتفرق كلمة العرب، وبمساعدات غير محدودة تلقتها اسرائيل من الغرب، فضلاً عن شحنات كبيرة منظمة من السلاح، وردت من وراء الستار الحديد، وبخاصة تشيكوسلوفاكيا، وهذه المساعدات التي وصلت على رغم أوامر الاممالمتحدة، كانت كافية لتغيير مجرى المعركة، وتمكن اسرائيل من تحقيق مكاسب إقليمية"، بينما قال الجنرال الاسرائيلي ييغال آلون: "لولا تدخل الجيوش العربية لما كان من يوقف توسع القوات الاسرائيلية التي كانت تستطيع، خلال اندفاعها، الوصول الى الحدود الطبيعية لاسرائيل، لان معظم قوات العدو المحلية في اثناء هذه المرحلة كانت مشلولة"، أي أن الجيوش العربية استطاعت أن تحول دون مد الاحتلال الاسرائيلي الى فلسطين بكاملها، وكانت القيادة الاسرائيلية تنوي ذلك، إذا ما كانت الظروف تسمح لها آنذاك بتحقيق هذا الغرض. ثمة حكمة يرويها فيصل الحسيني، المسؤول عن ملف القدس في السلطة الفلسطينية، وهي أن والده الشهيد عبدالقادر الحسيني كان طلب من الدول العربية مساعدته بمدفعين لحماية القدس من السقوط في أيدي اليهود، وعندما لم يجب إلى طلبه، رضي بمدفع واحد، فجاء الرد ينصحه أنه إذا لم يستطع حماية القدس فليتركها تسقط، حتى يكون للعرب شرف استردادها.