استشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة سلبية وخطيرة في مجال نشر التراث العربي تتمثل في التحقيقات الضعيفة المليئة بالأخطاء العلمية والمنهجية الفادحة والهوامش والتعليقات السطحية التي لا ترقى إلى المستوى المطلوب، فضلاً عن إعادة طبع كتب محققة سابقاً مع إضافة بعض التعديلات الطفيفة عليها وذلك بزعم حاجتها إلى تحقيق جديد، وهو ما يعتبر في حقيقة الأمر سرقة أدبية وعلمية مقننة وإهداراً لطاقات الباحثين والناشرين. والتحقيق، حسب المنهج العلمي، هو إخراج نص قديم وتقديمه إلى القارئ المعاصر كما أراد مؤلفه، وذلك عن طريق جمع النسخ المختلفة لمخطوطات الكتاب ومقابلتها ببعضها البعض، والتعليق على ما فيها من مادة علمية، وتعريف ما فيها من أعلام وأماكن، وشرح ما يصعب من مصطلحات، والتعرف على مصادرها ومقارنتها بمصادر موازية، وتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأبيات الشعرية الواردة بها، وفهرستها فهرسة علمية شاملة تساعد في معرفة محتويات الكتاب، مع التقديم له بمقدمة علمية تشير إلى أهمية الكتاب وموضوعه، وترجمة وافية لمؤلفه، وأخيراً شرح المنهج المتبع في تحقيق الكتاب. فأين هذا كله في كثير من كتب التراث المحققة حديثاً؟ يقول المحقق الدكتور محمود الطناحي، أستاذ اللغة العربية في جامعة حلوان المصرية: "ان تحقيق التراث عملية شاقة تتطلب إلماماً واسعاً ودراية كبيرة بكل علوم العربية، لأن المحقّق ملزم بايضاح نصوص الكتاب الذي بين يديه بكل دقة وأمانة، وإيصال معانيها التي أراد مؤلفها إبلاغها إلى القارئ بطريقة مبسطة ومباشرة". وهكذا نجد أن التحقيق، في واقع الأمر، أصعب من التأليف. وكان أي من الرواد الأوائل من المحققين أمثال محمود شاكر وعبدالسلام هارون والسيد أحمد صقر يمكث سنوات طويلة في تحقيق كتاب واحد، كما لم يكن أي منهم يجرؤ على نشر الكتاب إلا بعد التأكد من إستيفاء مختلف المراحل العلمية لعملية التحقيق. وهؤلاء قدموا، بهذه الطريقة، نماذج رائعة في تحقيق كتب التراث لا تزال شاهدة على تميزهم. ويرى الطناحي "أن أكثر الكتب التي تصدر عن دور النشر المختلفة بتحقيق شباب المحققين لا تستوفي مواصفات التحقيق الصحيحة، ولا تمر بمراحل المنهج العلمي المتفق عليها. ولا عجب في أن بعض هؤلاء لا يتورع عن إصدار عدد كبير من الكتب في السنة الواحدة مستغلين المثقفين الذين استفادوا من تزايد الإقبال على الكتب التراثية ومستهدفين تحقيق مكاسب مادية من دون بذل جهد حقيقي". ومن جانبه يُحمّل الدكتور محمود علي مكي، أستاذ الأدب الاندلسي في جامعة القاهرة، دور النشر الخاصة المسؤولية المباشرة في تفاقم تلك الظاهرة المزعجة، وذلك لأنها "تستسهل الاتفاق مع صغار المحققين بدلاً من المحققين الكبار الذين يتصفون بالعلم والخبرة، حتى لا تتكلف مالاً ووقتاً فتكون النتيجة عبارة عن كتب ذات طباعة فاخرة لكنها هزيلة وناقصة من حيث المضمون". ويضيف الدكتور مكي أنه في ظل هذا المناخ السيء الهادف إلى الربح المادي السريع، يجد المحققون المحترمون أن ليس مرغوباً فيهم لأنهم يتمسكون بشروطهم في اعطائهم الوقت الكافي لإخراج العمل بشكل جيد، وتوفير الإمكانات اللازمة لذلك مثل جلب معظم النسخ المخطوطة للكتاب حتى تتم المقابلة بينها، مع فتح المجال لشرح الكتاب والتعليق عليه في هوامش النص، وإعداد الفهارس الشاملة. وهو الأمر الذي لا يرغب فيه أكثر الناشرين الذين يكتفون معظم الأحيان بإيجاد نسخة واحدة من المخطوط، مع التقليل قدر الإمكان من هذه الشروح، حتى تتم "سلعة" هذه الكتب ونشرها في أسرع وقت. ومع ذلك يؤكد الدكتور مكي أن هناك بعضاً من دور النشر المحترمة التي تحرص على نشر التراث وتحقيقه بالطرق العلمية مهما كلفها ذلك من جهد، وهي بذلك تقدم النموذج الذي يجب أن تكون عليه دور النشر حتى لا تطغى الرغبة المادية على القيمة والمضمون. وينتقد السيد محمد الخانجي، مدير إحدى دور النشر المتخصصة في إصدار كتب التراث في القاهرة، عشوائية العمل البحثي في مجال تحقيق التراث، والتي تتمثل في تحقيق المصدر التراثي الواحد غير مرة. ففي وقت توجد عشرات الألوف من المخطوطات التي لم تحقق أو تنشر من قبل ولا نعرف عنها شيئاً، نلاحظ بروز ظاهرة تكرار تحقيق ونشر كتب تراثية معينة، من دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك. ويضيف الخانجي: "أن الأمانة العلمية تستوجب ألا يتعرض المحقق أو الباحث لكتاب محقق من قبل بتحقيق جديد، إلا إذا كان مضطراً إلى ذلك لنقص رآه، أو لعلة أدركها، أو لإضافة يريد تأكيدها. ومن الضروري أن يكون التحقيق الجديد للكتاب محتوياً على إفادات علمية مهمة لم يشر إليها من قبل، حتى تكون هناك مردودات بحثية قيّمة تعود على البحث العلمي في مجال التراث بالنفع. أما غير ذلك فهو يمثل تبديداً لطاقات الباحثين والناشرين على حد سواء". ويذكر أن هناك أحكاماً قضائية بالسجن والغرامة صدرت من المحاكم المصرية أخيراً ضد ناشرين دينوا بالتحايل على قانون النشر والطباعة، وضد محققين دينوا بالسرقة الأدبية والعلمية. ويلاحظ الخانجي أن تدخل القضاء لا يكفي للقضاء على هذه الظاهرة. ويقترح على الناشرين أن يقوموا بالبحث عن المخطوطات ذات القيمة العلمية والتاريخية، والتي لم تنشر أو تحقق من قبل، واسنادها إلى العلماء والباحثين المشهود لهم بالبراعة في مجال التحقيق، مع توفير كل الامكانات اللازمة لاخراج العمل على أكمل وجه. وبهذه الطريقة فقط، يقول الخانجي، يمكن أن تكتسب اصداراتهم صدقية علمية وأخلاقية عند جمهور القراء، وتتحقق مساهماتهم في إثراء البحث العلمي الموضوعي، وإحياء تراث الحضارة الإسلامية. ومن جانبه يؤكد الدكتور حامد طاهر عميد كلية دار العلوم في جامعة القاهرة أن العمل في مجال إحياء التراث العربي ونشره يحتاج عموماً إلى توحيد الجهود المشتتة لعدد كبير من الهيئات والأفراد العاملين في هذا المجال وتنسيقها في منظومة واحدة. فعدم التنسيق بينها يؤدي إلى حدوث الكثير من المشاكل والعراقيل، في مقدمها اختيار النص المحقق. فكما أنه يجب الاهتمام بتكوين المحقق وتخصصه العلمي، ينبغي أيضاً أن يتخصص الناشرون في مواضيع محددة في التراث حتى لا يكون هناك مجال للدخلاء والادعياء. ويقترح الدكتور طاهر قيام حركة نقد لتحقيق التراث لتقصي أثر الأعمال الجيدة وإبرازها، والفصل بينها وبين الأعمال الرديئة. ولتشجيع المحققين المتميزين يرى أن يخصص القائمون على أمر الجوائز التي تمنحها الهيئات العلمية والثقافية في العالم العربي، جائزة لصاحب أفضل نص محقق، علماً أن معهد المخطوطات العربية في القاهرة خصص أخيراً جائزة سنوية في هذا المجال. ومن ناحية أخرى يرى المحقق الدكتور ايمن فؤاد ان تتبنى الجامعات العربية، ولا سيما الكليات المعنية بالدراسات الأدبية والعربية، إدخال دراسة علوم التراث وتحقيق المخطوطات ضمن مناهجها، وأن تقوم بانشاء أقسام خاصة لهذا العلم، وذلك للمساهمة في تكوين أجيال جديدة من شباب المحققين على أسس منهجية وعلمية صحيحة بدلاً من ترك الساحة للادعياء. ويضرب فؤاد المثل في قيام الجامعات بتدريس علم تحقيق المخطوطات بما يجري في الجامعات الأوروبية منذ زمن بعيد، عندما ادخلت هذه الجامعات هذا العلم ضمن مناهجها وجعلته جزءاً من العمل الاكاديمي، وكانت معظم جهود المستشرقين في تحقيق التراث العربي تتم من خلال هذه الدوائر الاكاديمية.