الكتاب: الريح تمحو والرمال تتذكر - سيرة ذاتية المؤلف: حسب الشيخ جعفر الناشر: دار المدى - دمشق - 1997 أحد القلة في جيله الذي وسمته الفرادة باكراً، ذلكم هو الشاعر الستيني العراقي حسب الشيخ جعفر. تفرد عن الستينيين لندرة صوته المفروز على حدة، فهو زمانياً ينتمي لهذاك الجيل، لكنه جمالياً يفترق عنه، فهو لم يحتوه في بداياته، شأن جيله، تيار أو حركة، تصدر عنها أفكار تندرج في أطر نظرية، بل ظل بعيداً في مهجره الروسي، قارئاً الحالة الادبية ونشاطاتها. كما ان مساهماته الشعرية أضحت تتشكل في اطار عربي وعبر مجلة "الآداب" اللبنانية تحديداً، ابان طغيان وهجها المعرفي على الساحة الثقافية العربية. في تلك الاثناء سطع اسم الشاعر حسب الشيخ جعفر، فصدرت له عن "دار الآداب" مجموعته الشعرية الاولى "نخلة الله" التي كشفت عن نكهة ريفية ذات مذاق خاص في الشعر العراقي، تتخللها رؤية جمالية صانعة وخيال وهاب في طريقة تقديم القصيدة الجديدة التي سرعان ما أدت الى كشوفات فاتنة، تتألق في أشعار جديدة غير منظورة في عالم الشعر العراقي، وتتالت في مجاميعه الشعرية اللاحقة "الطائر الخشبي" و"زيارة السيدة السومرية" و"عبر الحائط في المرآة". هذه المجاميع الثلاث هي التي كرست حسب الشيخ جعفر شاعراً ذا طلاوة نادرة، يتمتع بطريقة تعبيرية مختلفة. أثرت بسياقاتها الشكلية وتناغماتها الهارمونية على أجيال لاحقة، اذ اكتسبت تجربته الشعرية في موسكو حلة وتوشيات وتطريزاً الحقت بشعره الاناقة والمماسسة مع آداب اخرى تحصلها من دراسته للادب الروسي، وهو ذاك الجنوبي القادم من ريف العراق وعمق تربته الذهبية الحارة، المشبعة بالشمس والندى والأطياف القروية. كل هذا سيظهر في ما بعد على نحو مهيمن في تجربته الشعرية التي زاوجت بين العناصر الريفية العراقية وبين الطبيعة الروسية المترفة بالثلوج والاشجار والمدنية الحديثة. هذه المزاوجة بين عالمين مختلفين، متنافرين وبعيدين أشد البعد عن بعضهما، هي التي كانت السمات الاساسية في جل أعمال الشاعر حسب الشيخ جعفر الشعرية وسيرته وحتى تراجمه الشعرية من الروسية الى العربية. ان صدور كتاب "الريح تمحو والرمال تتذكر"، السيرة الذاتية للشاعر، هو الذي أتاح مناسبة الحديث عن شاعر له دوره الجلي في بناء القصيدة الجديدة. والسيرة التي بين أيدينا لا تختلف كثيراً عن رؤيته الفنية في تناول الزاوية الشعرية. فالشاعر في سيرته هنا، كما في اشعاره، يخلق سياقين أو عالمين متباينين في عناصرهما عبر سطور وجدها خلال رحلة قام بها الى موسكو استمرت ثلاثة أشهر، جاءت بعد عشرين عاماً من مغادرته لموسكو، التي اتخذها أيام شبابه ملاذاً لدراسته. فله فيها ذكريات ومطارح وروائح ومقاه ونساء ومشارب ومطاعم وليال طوال وأرصفة للتسكع والسهر الليلي وحبيبة أحبها وظل يراسلها اكثر من ثلاثين عاماً... حيث الرحلات في الغابات الروسية الصنوبرية والتنوبية، او التجوال بين عماليق من شجرات الحور والبتولا وتحت شلالات مطرية. السيرة اذن تبدأ من فندق "سالوت" وهو "فندق أزرق هائل، يطل بجناحيه المشرعين العريضين، فوق مرتفع من الأرض، على الضاحية الجنوبية الغربية من موسكو، ويلوح لي انه قائم في بقعة من اجمل بقاع موسكو، الغابات جاثمة عن قرب والبصر يمتد بعيداً، عبر أحراش الحور والزيزفون وحيال الشاعر تنحدر المماشي باشجارها وأزهارها في الورود والصبايا". من هنا سيكون الفندق الرافعة الرمزية لمحمولات الماضي وانبثاقاته، ممتزجاً باشعاعات الراهن الذي لجأ اليه الكاتب. فأبهاء هذا الفندق تغدو مسرحاً لأفكار وتهويمات وسهرات يقطعها الدخان والشراب وخيوط الذكريات، التي تطل بنسيجها وسط هذه الاجواء، جامعة الرؤية الجديدة الى الحياة، متحسسة رحيل الايديولوجيا وصروحها التي انهدت فجأة، وملامسة أطراف حياة جديدة قلقة ومرتبكة تمضي الى مجاهل ليست معلومة وتنذر بمراحل مشوشة الرؤية، زمامها منفلت القياد. هذا ما رآه الكاتب آنذاك، وهو يكظم غيظه لما آلت اليه الاحوال والمقامات لدى تلك الانظمة الشمولية. ان السيرة في هذا المقام تزجي الوقت في أروقة الفندق ومشاربه الثلاثة وبيت الصديقة الروسية ورحلات تبدو مقحمة على الحياة، من اجل تأجيج جمر الذكريات واستعادة المواقع التي طرقتها رياح الماضي واخترقتها مياه الشباب وفورتها الاولية. فالسيرة تأخذ منحى سردياً لدى راهنها في الفندق وتجنح الى الملل والاستطراد والتكرار الاضطراري لحصر المشهد في مكان واحد والحركة في زوايا لا تثير شيئاً لدى المرور عليها. على ان الجوهري في كتاب السيرة "الريح تمحو والرمال تتذكر" والذي يحتل أهمية لافتة هو الجانب الثاني من السيرة، أو لدى وجهها الآخر الذي يلجأ اليه الكاتب من خلال الاحتكام الى السيرورة الزمنية وتقطيع سياقاتها عبر التداعي الحر في استخدام الفلاش باك Flashback ثم المضي بنا الى دفائن الماضي ونبش كنوزه الطفولية والتعرف الى أولى الخطوات السياسية في أحشاء الجنوب وقراه المتناثرة بين المياه والظلام والآفاق المديدة. الى ريف العراق الجنوبي وتحديداً ريف العمارة وأهوارها الخيالية، فراديس الطفولة المقذوفة على تلك الشواطئ، حيث حقول الرز والقصب ورفوف الطيور المهاجرة والحيوانات التي تنام وتأكل مع الانسان، في خلاء وسيع، أركانه الطيبة والبراءة والبساطة والوداعة الريفية التي لا تخلو من الخشونة والانفلات المجنون للأهواء العشائرية. فهنا في هذه الضفة الجميلة في السيرة، يصفو الشاعر حسب الشيخ جعفر ويرق، كاشفاً عن عوالم وأسرار يبوح بها كتابياً للمرة الاولى - حسب علمي - الا وهي ذلك الجانب المخفي من حياته السياسية ابان فتوته وانخراطه في النشاطات الفكرية اليسارية ذات الصفة التنظيمية. ولذلك تنفتح السيرة على مسرد وضاء وآخاذ من الذكريات الريفية وخصوصاً في اطار عملها المحموم في المسألة السياسية، التي شغلت العراق منذ نشوء دولته الحديثة. فجنوب العراق كان موئل النظريات والافكار الوافدة والمحلية، ومنه انبثقت رجالات فكرية وسياسية وأدبية وانطلقت تشكيلات لخلايا وأوكار حزبية، قومية عربية ويسارية شيوعية، سيكون لها شأنها في ما بعد عبر تأثيرها في خارطة العراق السياسية ومستقبله الذي اتسم بالاحتراب والاصطراع الفكري والسياسي والقبلي وبالانقلابات الدموية - التصفوية وأخيراً بالحروب الفجائعية. فرحلة الشاعر حسب الشيخ جعفر هنا هي ان يخوض في المستنقعات الضوئية، سارحاً بين المواشي ورائحة السمك النهري وسطوة القمر والريح التي تضرب النخيل في الليالي الباردة والممطرة. فاذا كان الشاعر حسب الشيخ جعفر يرينا الجانب الفتان من طبيعة الاهوار الجنوبية، فهو لا بد ان يرينا الطبيعة الاخرى بوجوهها السياسية، جاعلاً من التماهي بين الطبيعتين ما يميز جماليات ذلك المكان بعناصره الحياتية المتنوعة. فسبر أعماق الماضي وكشف خباياه لاستشراف مزايا الصالح والطالح هو من سمات النصوص البيوغرافية الراقية.