لم تعد النظرية النقدية الحديثة في معاينتها للنص الأدبي متكئة على مقولات سابقة، أرسطية كانت أو نيوكلاسيكية أو لسانية أو بنيوية. فلقد جرى تمرد حقيقي للنص الابداعي على المفاهيم النقدية الى الحد الذي لم تعد تلك المدارس قادرة على استيعاب تطوراته الأسلوبية ووجهات النظر الجديدة التي فرضتها الرؤية المعاصرة الى ما يسمى بالواقع العياني. هذا ما تلوح به نظريات ما بعد الكولونيالية الحديثة التي نشأت في العالم الغربي من جذور لمفكرين من غير البلدان الغربية، كما يشير إلى ذلك ادوارد سعيد الذي يعد أحد هؤلاء النقاد الذين فتحوا النص الأدبي على تصورات منهجية جديدة قائمة على علم الاستشراق. ولست هنا بصدد استعراض نظرية ادوارد سعيد في تفسير النص الجديد، فقد حمل كتابه "الثقافة والامبريالية" تصورات منهجية - تطبيقية عن هذه المسألة الجوهرية. لكني بصدد تصور منهجي آخر نشأ عندما بدأ النص الأدبي يستخدم العادي ويستخدم الغرائبي معاً، من دون أن ينتمي الى أي منهما. هل هذه مفارقة تخرج عن مفاهيم كل المدارس النقدية بما فيها تلك التي اعتمدت المنهج الاجتماعي أو المنهج البنيوي التكويني، أو تلك التي اعتمدت المنهج الأسطوري والميثولوجي، ناهيك عن انحسار قار في المناهج القديمة: الواقعي، النفسي، الجمالي... الخ؟ ام أن المسألة لا هذه ولا تلك، انما هي رؤية لم تستقر بعد على تصورات اجرائية قادرة على فرز العادي الحياتي عن الغرائبي الحياتي، بحيث يمكن للناقد أن يتعامل مع النص - ليس وفق مفهومات نظرية سابقة تعتمد على الغرائبي على حساب العادي أو العكس، ولا وفق خطاطات اكتسبت صفة اجرائية مجربة نتجت في أحضان ثقافة أخرى وتمت تطبيقاتها على نصوص أخرى، وهذا ما يعمل به نقدنا العربي التطبيقي اليوم - انما وفق مفاهيم تنطلق من العادي ومن الغرائبي معاً في النقطة التي يلتقيان فيها ويفترقان مع الواقع المعيش، أي في المنطقة "المابين". لهذا يبدو إن النص الأدبي الجديد لا يعاني من شحة مصدرية أو مرجعية بعدما انفتحت أمامه سبل التعبير من خارج الأطر الاجتماعية والمدونات والمرجعيات الثابتة والأقوال الشفاهية وكل ما يمت بصلة الى المدون المعلوم. فقد انفتح الواقع أمامه على غرائبية - واقعية كامنة فيه مألوفة ومعاشة وتسيران معاً في كل ممارسة حياتية له حتى لتشعر بأن انساننا المعاصر ليس إلا حصيلة هذه الثنائية. انها أشبه بالقارة السابعة المجهولة الكائنة في دواخلنا وجوارحنا من دون أن نعيها، وقد أبانتها العلوم الحديثة وكأنها جمع مفترق من تلك القارات المعلومة. هذه القارة هي التي مهدت للنص الأدبي أن يتطور خارج المدرسية من أي نوع كانت، وهي التي مهدت للغة النص ولبنيته المعرفية أن تتمرد على السياقات المألوفة للتآليف السابقة. وخلال قراءاتنا المتراكمة لطرق التأليف القصصي العربي نستطيع وضع مفردات واضحة للطريقة التي يؤلف بها نجيب محفوظ رواياته مثلاً، ونستطيع تلمس السبل المنهجية للطريقة التي تكتب بها القصيدة الحديثة - قصيدة الحداثة الأولى والحداثة الثانية - قصيدة السياب والبياتي وقصيدة أدونيس وسعدي يوسف مثلاً على وجه التحديد - ونستطيع بسهولة أن نعلن موت التأليف المسرحي العربي بعدما استنفدت كل الطرق التأليفية - الواقعية والتراثية - التي تعامل معها طوال نصف قرن. كما نستطيع بسهولة أن نتلمس طرق وأساليب الكتابة النقدية الأكاديمية للأطروحات النقدية في الجامعات وخارج الجامعات لما ألفناه من مقدمات ومتون وطرق تحليل شبه ثابتة. كما يمكن القول نفسه عن الكتابات النقدية التي تدعي الحداثة، خصوصاً المعتمدة على النظرية الحديثة - البنيوية والتفكيكية والتكوينية - من أنها هي الأخرى سقطت في العادي المنقول وفي المألوف من القول المترجم. ومعرفتنا هذه قائمة على مبدأ واضح وهو ان الأساليب القديمة إما أنها تتحدث عن الواقعي والعادي، واما عن حدث التجريبي - الغرائبي الذي يمتلك شرطه الواقعي. لقد آن الأوان للتأليف أن يردم طرقه القديمة، ويشق له طرقاً جديدة ليس من ابتكارات القول الناقص في المعرفة، انما من خلال السعي الى رؤية أشد كثافة للعالم المعاش والذي بدأ يصغر الى الحد الذي أدخلناه في خرم الإبرة، أعني الكومبيوتر وأساليب التعامل مع المعلومات والاتصالات الحديثة. هذا الواقع المبهم الملتبس لا يبدو أنه ميسر لعدد كبير من الكتاب المعاصرين. التاريخي والواقعي في هذا المجال نتلمس في الكثير من الابداعات الجديدة - وان لم يحوها نص ما لوحده - طرق قول مغايرة لما ألفناه سابقاً من طرق التأليف. أقول ذلك ولي في الشواهد الآتية بعض ما أشير إليه: كتابات محمد شكري الروائية التي تعتمد العادي الحياتي بحثاً عن الغرائبي المعاش فيه والتي كشفت عن المسكوت عنه كتابة، وصولاً إلى تعميم ثقافي لهذه الممارسة خارج المؤسسة الأسرية وكأنها من مألوف اليومي المعاش، في الوقت الذي تبدو مثل هذه الأفعال غير مستساغة للآخرين بحكم مفهومات دينية أو اجتماعية، فهي إما أن تتحول الى شعرية نثرية تتحدث عن مستوى الغائب - المعلن عن الحياتي وعن الغرائبي الممكن تداوله معاً، وانما أن تصبح شعرية حديثة بإطار الرواية، إذا لم تجر إحالتها على التراث كما يفعل الكثيرون عندما يستعيرون شهرزاد للقول عن المرأة المعاصرة. فهم يحتمون بالتاريخي على حساب الواقعي. هنا يبدأ أول تلمس للصدام الفعلي بين ما هو واقعي مألوف وبين ما هو غرائبي لم تجر استعارته. كلاهما يعيشان معاً في الواقعي وفي المستوى ذاته من العلانية، ولكن النص يفرقهما من أجل أن يكتشف في المساحة الكائنة بينهما في "المابين" مجالاته التي يبني ذاته من خلالها. عندئذ يمكن القول ان كتابات شكري ليست واقعية وليست غرائبية، انما هي الكتابة ذاتها وقد وجدت بقعتها الخلاّقة - الذاتية، في المخفي من المعلن. وإذا كان شكري من فرط واقعيته بدا غرائبياً - هنا ينفعنا الواقعي في حمولته الغرائبية - فما بالنا "بالحرافيش" لنجيب محفوظ، التي من شدة تعلقها بالتاريخي بدت غرائبية وواقعية معاً؟ هنا لا يعوض التاريخي عن الواقعي في حال نجيب محفوظ بل يعطي تصوراً آخر عن أساليب التأليف الشائعة. فالتاريخي واقعي، ويمكننا فك مفرداته ورموزه وفق مناهج نقدية واجتماعية مختلفة، أي أنه يخضع للمتداول النقدي، ونفع التاريخ أتٍ من أنه ما نزال نحياه، ونمتح من مناهله خصوصاً في المجتمعات العربية. لهذا أوغل نجيب محفوظ أداته المعرفية - الروائية - في متونه وهوامشه وأعلن عن ميلاد جديد للحكاية: "حكايت هُ" كتاريخ قابلة للتداول أولاً، وحكاية النص - روائياً - لا يمكن إحالتها لا على التاريخي ولا على الواقعي ثانياً. وهذا ما يجعل التعامل مع التاريخي مجالاً للإبداع، في حين لا يكون التعامل مع التراثي إلا إعادة انتاج له... عدا التراث الشفاهي الذي ينفتح نصياً كلما اتسع القول المتداول منه. لعل ميدان رواية الواقعية السحرية الابداعي يقع في هذه المنطقة غير المكتشفة من التراث، أي المنطقة الشفاهية. اضافة الى ان الكثير من مواقع التراث تمتلك شيئاً من قدسية الأموات التي ما أن تقترب منها حتى تبسمل. وعلى مدى التعامل مع الواقعي والتاريخي برزت الى الوجود بقعة جديدة من الابداع الأدبي كامنة في "المابين" تنهل من الواقعي، وتنهل من التاريخ معاً، وتتعامل مع الغرائبي من دون أن تكونه، ومع الواقعي من دون أن تستنخسه. هذه البقعة الخلاّقة هي مصدرية النص الجديد، شعراً كان أم رواية. في نص محمد خضير "بصرياثا" نلمح هذا النوع من التعامل مع البقعة "المابين". "فبصرياثا" مدينة كائنة في التاريخي وفي الواقعي المعاصر - البصرة - معاً، وعندما يستدعي المؤلف شواهدها التاريخة ومدوناتها القديمة، يضعها بين قويسات ضمن المتن السردي وكأنها نتوءات جرى توليفها بطريقة شعرية بحيث لا تشعرك بأنها مستدعاة من التاريخ المدون، وهذه قدرة تأليفية خاصة تعامل بها محمد خضير كثيراً خصوصاً في ما يتعلق بفهمه النقدي للشريحة المقتطعة من الواقع العام والإتيان بها الى النص ثم محاولة استرجاعها ثانية للواقع بعد أن دخلت المبضع التأليفي. وهي طريقة مختلفة كلياً عن طريقة جمال الغيطاني في "الزيني بركات" مثلاً عندما أصبح التاريخي كله معاصراً من خلال الاستبطان اللغوي. هذه المفهومة الأسلوبية هي عماد طريقة محمد خضير التأليفية في "بصرياثا". وعندما يتحدث عن "بصرياثا" كواقع قائم، استجلبته الحروب التي تهدد مدينة البصرة، نجد النص يسير خارج هذا الواقعي المعاش وفي داخله أيضاً، ما يعني أن الواقعي المعاش ليس إلا إطاراً "لبصرياثا"، وفي الوقت نفسه ان "البصرة" الحديثة واقع تفتح على كل الاحتمالات، اضافة الى انها كامنة في رحم ميثولوجيا "بصرياثا". وهذا هو الذي جعل النص السردي عنها يتحول الى مجس مجرب للمواقع المتأرجحة الوجود بين "بصرياثا الاسم القديم، وبين البصرة كواقع معاش". في حين تكون الميثولوجيا المستدعاة بفعل "الحكاية السردية" تقع في "المابين" لذلك التاريخي، ولهذه المعاصرة. وقد اغتنت بفعل تهديد القوى الضاغطة الكبيرة - الداخلية والخارجية - على بنية النص لتفجر في المنطقة "المابين" حرفيات نص لا ينتمي لزمن معين للبصرة أو لبصرياثا. يتداخل في هذه البقعة "المابين": الغرائبي والواقعي معاً من دون أن ينتمي النص الى أحد منهما، وهذه نقطة أخرى تضاف الى أبعاد السرد الجديدة، إذ ليست اللغة وحدها الحامل لهذا التحول في وجهات النظر الحديثة للقص، انما "البقعة المنتقاة من هذا الواقع" والتي خضعت هي الأخرى لمفهوم "المابين". لذلك ليس ثمة شخصيات في بصرياثا، ولا أحداث تعلّم تاريخاً، انما الذي فيها هو هذا السيل من المعلومات القديمة التي أُستدعيت لتسند الواقعي الجديد لها في ظروف الحرب التي لا يقف تأثيرها على الغاء مدينة، بل على الغاء معرفة متأصلة، والمعرفة المتأصلة ليست إلا الموقع الذي لا ينتمي للتاريخي ولا للواقعي. النص... رسالة! في ضوء ذلك لم تعد نظريات التلقي القديمة نافعة هي الأخرى لرؤية النص الحديث، فهي ما زالت متمسكة بالتقسيم الثلاثي: المؤلف، النص، القارئ. فمثل هذه النظرية الخاصة بالتلقي تتعرض الآن إلى تغييرات جذرية في كل مفردة منها: فالمؤلف جرى تغييبه بعد أن هيمن الاطار المرجعي على النص. والنص نفسه لم يتحول الى رسالة ما، مثلما كان سابقاً يتحول الى رسالة اجتماعية، رسالة ثورية، رسالة أدبية، رسالة ذاتية... الخ. كما ان المتلقي - القارئ - لم يعد واحداً ولا يمثل زمناً معيناً، بل مجموعة من القراء ومن الأزمنة والأمكنة والحالات. فالقارئ الضمني الذي يعتمده المؤلف كجزء من بنية النص الحديثة أزاح حدوداً وتصورات من القارئ العادي الذي تدعيه فرجينيا وولف مثلاً، أو القارئ المدبلج اللغات الذي أسهمت الترجمات للنصوص من تغييبه قسراً بعد أن تكفّل المترجم كل الأدوار نيابة عن القارئ في الايصال المعرفي لثقافات أخر. هذه البنية المتغيرة في آلية المتلقي فسحت المجال أمام النص الحديث لأن يغيّر مواقعه، وأن يبدّل أساليب قوله السابقة. فلم يعد النص نتائج كاتب واحد كما كان، كما لم يعد نتاج مرحلة أو مفهومات معينة، كذلك لم يكن له القارئ المعين الذي يتوجه إليه النص. في مثل هذه الحالة لم يعد الواقع نقياً صرفاً ولا الانسان معيناً بموضوع، أو ان يكون هو "الموضوع". بل جرى إمحاء لذاكرة الجميع من أنهم "يسمّون" و"يتعينون" ولهم قضايا يمكن تداولها، والحديث عنها. ففي مثل هذه الواقعة الأسلوبية ليس ثمة استنساخ للماضي ولا للحاضر، انما الماضي والحاضر ليسا سوى ضفتي نهر "المابين". هنا قد ينفعنا الفيلسوف الظاهراتي هوسرل في مفهوم "التعيين" من خلال سؤاله الفينومينولوجي: "هل بوسعنا الاطمئنان الى الواقع الصرف والاكتفاء بأن البشر ذوات Subjekte للعالم ... وفي الآن ذاته موضوعات Objekte فيه؟" ومع ان تساؤل هوسرل يخص العلاقة بين البشر والله من خلال مفهومه للدين الوضعي، إلا أنه مؤشر جيد لنا للقول إن الواقع لم يعد كياناً صرفاً نقياً وصافياً، وان البشر فيه لم يعودوا موضوعاً صرفاً ومتكاملاً فيه كذلك، ليس من خلال ما انتاب العلاقة بين البشر والإله من خلل، انما من خلال الخلط المنهجي بين الاثنين الى الحد الذي تقول فيه بوجود علاقة غير منظورة - ولكن منفصلة - بين الواقع "المعين" وبين انسانه "المعين". ولعل هذه الفكرة المجتزأة من الظاهراتية تعيننا على تلمس الطريق نحو هذه البقعة غير "المحتواة" البقعة "المابين" التي يحتل قسم منها الواقع غير "المعين"، والقسم الآخر منها الناس غير "المعينين". وهما في كل من الانشغال بانتظار نوعية جديدة للرسالة التي يبثها المؤلف. ترى ما شكل الرسالة في مثل هذه الحال؟ ومم تتألف مفرداتها؟ وما هي دلالاتها؟ ومن تخاطب؟ وهل لها متكئات مرجعية، أو ثوابت واقعية؟ وهل الشخصية فيها مثل تلك التي تعودنا على قراءتها؟ أسئلة لا حد لها تفتحها الظاهراتية عندما تحيل النص الابداعي الى "ظاهرة عيانية مرتبطة بلحظة شعرية ما" و"معلقة" عن الماضي وعن التاريخ، ومقذوفة إلينا في "الآن" المعاش. البحث عن بقعة "المابين" يتم من خلال الوعي بأن الواقع المعيش ليس هو الواقع الذي يمنحنا الرؤية الى الكتابة، كما ان المتخيل منه ليس هو الموقع الفعلي لمثل هذه الكتابة، اضافة الى ان الانسان المعاصر لا يُنظر إليه على انه كلي القدرة. ضمن هذا التصور للعملية الابداعية ينشأ نوع ما من الواقع المفترض، ولكن المسند برؤى فكرية كبيرة يعيش معنا ونحياه من دون أن يلتصق بأي ظاهرة ما من الظواهر الفكرية السابقة التي ألفناها في الكتابات الروائية المعاصرة. أما كيفية البحث عنه في الموجود الواقعي وفي الغرائبي فليس من الهين أن تجد أياً منهما قد احتواه واستوعبه، انه كما نوعت أشبه بالقارة السابعة التي نحياها ونجهلها معاً.