لم يواكب اي كاتب الماني من جيل ما بعد الحرب في اعماله تاريخ المجتمع الالماني باستمرارية وعمق، كما واكبه هاينريش بول الذي دأب على تغطية مرحلة تاريخية ابتداء بسقوط جمهورية فايمار، مروراً بالمرحلة النازية وانتهاء ببناء مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا يتجلى بوضوح في المجلدات الخمسة من الاعمال القصصية الكاملة 1947 - 1977. تناول بول الواقع الاجتماعي بوعي وروح نقدية صافية، لم يغفل القوانين والبنى التحتية للمجتمع وتناقضاته. لقد عكس في اعماله القصصية الاولى "كان القطار في الموعد المحدد" و"أين كنت يا آدم!" عبثية الحرب وحال الوحدة والضياع التي يعيشها انسان ما بعد الحرب: "والآن يوشك ان يحل ليل من هذه الليالي... ليل مترع بالارتياح، ليل بلا وطن، بل حتى دون جحر دافئ صغير جداً... يمكن ان يتخذ مخبئاً...". ثم تعرض بول في "ولم ينبس ببنت شفة" و"اليوميات الايرلندية" و"آراء مهرج" بالنقد اللاذع لموقف الكنيسة الرسمية ولبقية الطبقات المتنفذة وواجهاتها السياسية. فهو حين يقدم لنا صوراً وانطباعات عن المجتمع الايرلندي في "اليوميات الايرلندية" يكشف بشكل متزامن عن موقع الخلل في المجتمع الالماني من خلال نماذج المانية متباينة في انماط تفكيرها وعاداتها. وبول هنا لا يلتقي نماذجه الالمانية هذه في ايرلندا بمحض الصدفة. ويشهد بول، الذي يسلط الاضواء على توطؤات الكنيسة في المجتمع الجديد، رغماً عنه سيناريو خلع مسوح الديموقراطية على نازيي الامس الذين قاتلوا من أجل النازية واداموا مذابحها المروعة حتى آخر طلقة. إذ يتم بين ليلة وضحاها طمس كل الآثار الدموية لماضي النازيين ليصبحوا كاثوليكاً ورعين وديموقراطيين وخرجوا الى الشارع نافضين عنهم اوضار النازية... يتبارون في الدعوة الى الديموقراطية. ويعد هاينريش بول، من بعد فولغانغ بورشيرت، ابرز كاتب للقصة القصيرة في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ومن الروائيين الالمان القلائل الذين كتبوا روايات تصل الى مصاف الروايات العالمية. وقد كان المؤرخ الادبي البارز وعالم البلاغة ينس Walter Jens على حق حين قال: "كان بول في كل نقطة كاتباً مهماً، ترك آثاراً كبيرة في ادب ومجتمع ما بعد الحرب... فهو في "اراء مهرج" و"شرف كاتارينا بلوم المثلوم" و"ولم ينبس ببنت شفة" و"بيت بلا رب" فناناً في كثير من النقاط الى درجة كبيرة... وأكثر مما يعتقد البعض. انه كاتب فهم ان يكتب بعناية وحساسية فائقة، وحقق في كتبه ذلك القدر الكبير من المهارة الفنية المتناهية. وسنعمل كلنا لفترة طويلة من اجل تتبع الآثار الكبيرة لهذا الكاتب المهم...". كان بول يعي ان الدفاع عن قضية الانسان والحقيقة يقتضي التنوع في المقاومة وعلى اصعدة مختلفة. فلم يقتصر دوره على المجال الابداعي وما يرافق ذلك من نشاطات اعلامية وصحافية، بل ساهم مساهمة فعالة في تأسيس اتحاد الكتاب الالمان PEN وتسلم رئاسته سنوات عدة. وانخرط في نشاطات حركة السلام بشكل مثابر، على رغم وضعه الصحي المتدهور. وعدم قبول بول رئاسة الاتحاد الفخرية يندرج ضمن موقفه الرافض لكل مظاهر التكريم واكتفى بتسمية نفسه عضواً دائماً في الاتحاد. وعُرِفَ بول بحماسه والتزامه المنقطع النظير في دعم الاتحاد وزملائه الادباء. واتخذ بول من مناسبات سياسية معينة باعثاً لفتح النار على الفئات الاجتماعية المهيمنة وبذلك اصبح عرضة لهجمة شرسة من قبل الفئات اليمينية التي ناصبت الكاتب العداء، خصوصاً إبان اعلان بول موقفه المناوئ للحكومة في حربها المعلنة ضد جماعة "بادر - ماينهوف" بعد تشريع ما يسمى ب "مرسوم المتطرفين". وكانت ردود فعله توازي حجم الحملة المسعورة، لأنه ادرك ان النهج الجديد يقيد الحريات، بما فيها حرية الفكر. قال في خطبة له العام 1966: "حيثما يمكن ان ينبغي او ينبغي ان يكون هناك وجود للدولة، لا اجد الا ثمة بقايا سلطة تتعفن". وكتب في مقالته الشهيرة في "دير شبيغل" تحت عنوان: "هل تبغي اولريكه ماينهوف رحمة ام ضماناً للحرية؟" في 10 كانون الثاني 1972 محذراً: "ان اولريكه ماينهوف تعلم انه سيتم الاجهاز عليها بلا رحمة، بينما يجري سراً اطلاق سراح مجرمي النازية السابقين او مجرمي الحرب الذين دينوا وفقاً للقانون". وشاركت في الحملة الظالمة ضد بول، اضافة الى صحف ومجلات "اكسل شبرينغر"، صحف واحزاب اليمين بأجمعها وبالغت في هجومها الوقح الى درجة انها وصفت بول ب "المؤدلج الفكري للارهاب". وحذرت مجلة "كفيك" من ان هاينريش بول يعد اكثر خطورة من بادر - ماينهوف، بل وصل الامر بالكاتب هانز هابر صحيفة "بيلد" الى الادعاء: "ان الآثار الدموية لاعمال العنف الارهابية تقود الى بول". وعلى نقيض اليمين لقيت اعمال الكاتب استحساناً وتقديراً لدى الجمهور والأدباء والنقاد على السواء. كما جاء على لسان الفيلسوف الالماني تيودور ف. ادورنو في مناسبة الذكرى الخمسين لعيد ميلاد بول، اذ قال: "وجه بول ضربة قاسية الى مظاهر السوء وفي الموضع المؤلم، حيث اطلق عليها اشنع النعوت وهذا ما كان يؤلمه فعلا. بيد انه لم يكن امامه اي مناص سوى تسمية الاشياء باسمائها وهذه هي الحقيقة بعينها. وبهذا اصبح بحق ممثلاً فكرياً للشعب الذي يكتب بلغته". يعد منح الكاتب هاينريش بول جائزة نوبل للآداب العام 1972 عن روايته "صورة جماعية مع سيدة" اهم حدث في حياته بالتأكيد. فهي اعظم جائزة ادبية تمنح الى الماني بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت واحدة من خمس وعشرين جائزة قدمت الى بول تكريماً وتقديراً لاعماله القصصية. ولم تكن تستهوي بول مظاهر التكريم ويرفضها على الدوام... لربما لأنه لا يطيق مجاملة بعض المتزلفين. وهو نفسه القائل: "لا أريد ان اكون هاينريشكم الالماني... فيَّ اشياء كثيرة تعد بديهية واخرى غريبة... غير انها بقيت غريبة على الدوام، وثمة اشياء اضحت غريبة ولكني استشعر هذه الغربة تماماً... لأني متأكد اننا لا ننتمي الى هذا المكان، اعني هذه الارض، انما وطننا هو ايضاً في مكان آخر". وحين ساهم بول العام 1982 مع الآخرين من حركة السلام باحتلال معسكر موتلانغن كاحتجاج على نصب صواريخ بيرشنغ، اراد هو والآخرون من حركة السلام التذكير بويلات واهوال الحرب العالمية الثانية والحيلولة دون اندلاع الثالثة. وهذا يتواءم مع موقفه السياسي، اذ بقي يدعو للتحزب من دون الانتماء لحزب ما. وضمن هذا التصور ايضاً اصدر بالتعاون مع غونتر غراس وكارولا شتيرن وآخرين مجلة "L80" التي تعنى بالأدب والسياسة. وأولى بول في اعماله الابداعية اهتماماً بالتأثيرات التي احدثتها افكار النقاء القومي النازية اولاً وفي ما بعد الماكنة البيروقراطية على اللغة الالمانية. ولهذا بالذات ظلت مهمة بول المركزية متمثلة في السعي الدؤوب بحثاً عن لغة صالحة لتكون مأوى في بلد يقطنه. وهو الذي ادخل في الأدب الالماني بعد الحرب مواضيع التذكير بالذنب والحزن... ويرى ان جذور الروح العسكري الالماني ترجع الى ايام المدرسة، حيث لعب المحاربون القدماء في الحرب العالمية الاولى دوراً بارزاً في توجيه الناشئة وتحبيذ تجربة الحرب لهم باعتبارها حياة حافلة بالمغامرات. وبقي بول طيلة حياته، يدعو الى التشكيك بمعصومية الصحافة ويحذر من التسرع في تصديق ما تنشره واعتباره حقيقة ثابتة. وكان يحث على قراءة اكبر عدد من الصحف والمقارنة بين ما تكتبه هذه الجريدة وتلك حول الموضوع ذاته، ومن ثم استخلاص اوجه الاختلاف وتكوين رأي خاص بالقارئ بعيداً عن التضليل والاستغفال. ولم يتواءم بول في يوم من الأيام مع جملة من الظواهر الاجتماعية والسياسة متسلحاً بفوضويته وريبته ازاء الاحكام المُسبقة من اجل الوصول الى الحقيقة وتلمسها عن كثب. إذ يرى انه لا يمكن معرفة الحقيقة من دون تجاوزها، ومن ثم العودة الى الخطوط الخضر: "ينبغي تجاوز الحدود لأنه لا يمكن معرفة حدود الحرية الا حين يتم تجاوزها اولاً ومن ثم الرجوع عنها ومراقبة ما تم بالفعل وبدقة متناهية. وهذا ينسحب ايضاً على المعتقدات من اجل ان نعرف بالذات ما تعني العقيدة". نبذة عن حياته ولد هاينريش بول Heinrich Boll في 21 كانون الاول ديسمبر 1917 في مدينة كولونيا الواقعة على نهر الراين. 1937: الحصول على الشهادة الثانوية. وبدأ التأهيل في مجال المكتبات في مدينة بون. 39 - 1945: الخدمة العسكرية في فرنسا والاتحاد السوفياتي ورومانيا وهنغاريا. الاصابة بمرض التيفوس وبجروح لمرات عدة والاقامة للعلاج في المستوصفات العسكرية. 1942: الزواج من صديقة الصبا المعلمة اناماري. الفرار من الخدمة العسكرية لبعض الوقت. 46 - 1948: نشاط ادبي مكثف، والعمل بين الحين والآخر لكسب قوته. النشر في الصحف والمجلات الادبية. 1949: نشر أول رواية "كان القطار في الموعد المحدد". 1950 - 1951: نشر المجموعة القصصية "ايها الجوّاب، هل تأتي الى اسبانيا". العمل ككاتب متفرغ. منح جائزة مجموعة ال 47 عن القصة الساخرة "العاقّون". 1953 - 1963: رواية "لم ينبس ببنت شفة" حاز على جائزة نقاد الادب وجائزة القصاصين. "خبز السنوات الاولى"، "الاعمال الساخرة"، "الضيوف ذوو النزوات المفاجئة"، "المسرحيات الاذاعية"، "اليوميات الايرلندية"، "بيليارد في التاسعة والنصف صباحاً". السفرة الاولى الى الاتحاد السوفياتي. "آراء مهرج". اقامة طويلة في ايرلندا. انتخب العام 1969 رئيساً لاتحاد الكتاب الالمان. "صورة جماعية مع سيدة"، 1972 جائزة نوبل للآداب. "شرف كاتارينا بلوم المثلوم". "نساء امام طبيعة النهر"، "كثيراً ما تسافر الى هايدلبرغ وقصص اخرى". رفض بول قبول "نوط الاستحقاق الاتحادي" من الرئيس الاتحادي شيل وكذلك فعل الكاتبان غونتر غراس وزيغفريد لنتس. 1984: "بيلد، بون، بوينس"، كتاب ينتقد فيه بول لغة الماكنة البيروقراطية متمثلاً بلغة الخطاب الصحافي للمتحدث باسم الحكومة آنذاك بيتر بوينش: لا غرو في ذلك، فان بيتر بوينش كان يرأس تحرير صحيفة "بيلد" اليمينية لسنوات، قبل ان يصبح متحدثاً باسم حكومة المحافظين. في 16 تموز 1985 توفي هاينريش بول. 1986 "القدرة على الحزن"، خطب ومقالات للفترة من 83 - 1986. 1993 "صمت الملاك" وهي رواية كتبها بول في فترة مبكرة ولم تنشر في حياته.