ما كاد مجلس النواب اللبناني ينهي إقرار الموازنة العامة 1998، في ظل نقاش صاخب حول سياسة الحكومة المالية والاقتصادية والمخاطر الناجمة عن ازدياد عجز الموازنة وتضخم كتلة الدين العام الداخلي والخارجي وتراجع نسبة النمو وتعاظم الاحتياجات الملحّة لتلبية المطالب الاجتماعية خصوصاً سلسلة الرتب والرواتب للموظفين ومساعدة المناطق المحرومة وتمويل صندوق المهجرين... حتى بدأت الاستحقاقات تتوالى، وفي مقدمتها مطالبة اساتذة التعليم الثانوي والجامعي إقرار السلسلة وتنفيذها بعد موافقة الحكومة عليها ابتداءً من 1/1/1996، واستيفاء ضريبة على صفيحة البنزين آنذاك تغطية لها. ولأن النسبة المقدرة لعجز الموازنة عام 1997 37 في المئة بلغت فعلياً 56 في المئة، ونسبة النمو تراجعت الى 2 في المئة، فقد تبنَّت الحكومة سياسة تقشف كانت أقرتها الورقة الاصلاحية باتفاق الرؤساء الثلاثة الهراوي وبري والحريري. ومن ثم جرى خفض نسبة 15 في المئة من بنود الإنفاق الجاري لدى اعداد الموازنة. وأكدت الحكومة انها لن تقرّ بعد اليوم أي انفاق، مهما كان نوعه، ما لم تتأمن له موارد خاصة. وكان رئيس الحكومة اقترح العام الماضي سلسلة اجراءات لزيادة الواردات الضريبية اصطدمت بمعارضة حكومية ونيابية ونقابية. فعاد الى طرح مشروع استدانة جديد تمّت الموافقة عليه بحدود البليوني دولار اميركي لتغطية مستحقات فوائد الدين، والمطالب الاجتماعية، وحماية سعر صرف الليرة، واعادة هيكلة الدين العام بتخفيف كتلة الدين الداخلي ذات الكلفة العالية 21 في المئة. وفي هذا السياق تحرك رئيس الحكومة للحصول على قروض بصيغة الودائع دعماً للوضع النقدي. وحصل على وديعة سعودية بقيمة ستمئة مليون دولار اميركي. الا ان هذه الاجراءات الايجابية لم تحدث التحوّل المطلوب لوقف دولرة الاقتصاد، والضغط على الليرة. ولم تظهر نتائج سريعة على صعيد الجباية المالية. كما برزت مشكلة جديدة تتمثل بانسحاب بعض الاستثمارات العربية في ظل اجواء القلق من الوضعين المالي - الاقتصادي والسياسي. فالمشكلات السياسية المتلاحقة تضغط على المناخ النفسي، وتعاكس أجواء التفاؤل التي يحاول رئيس الحكومة وفريقه إشاعتها في ظروف الضائقة المعيشية والخضات والتشنجات، إما بسبب نزاعات اهل الحكم، أو بسبب الاوضاع السائدة في جنوبلبنان، أو في غياب الثقة بنهج الحكم على صعيد الادارة بشكل عام، وعلى صعيد الوفاق الوطني بشكل خاص. ويبدو واضحاً ان الحكومة لا تملك قراراً في هذه المسائل. فلدى مناقشة الموازنة تكررت الدعوة الى وقف الهدر، وتفعيل الرقابة والمحاسبة، الأمر الذي لم تتخذ الحكومة حياله أية اجراءات. ولم تؤدِ فضائح الاختلاسات المالية حتى الآن الى محاسبة أي مسؤول عنها. والمصالح الكبرى التي تقتطع جزءاً من موارد الدولة في قطاع النفط، أو في استثمار الاملاك البحرية من دون مقابل" وموضوع الوفاق الوطني الذي يلقي بثقله على كل المستويات، من خلال العزوف عن المشاركة السياسية والاقتصادية من فئات واسعة من اللبنانيين" والتعديل الحكومي تحقيقاً لتفعيل دورها، وتعزيز صفتها التمثيلية، يظل محكوماً باعتبارات عدة، فلا هو مقبول من الاطراف السياسية على نحو ما يشتهي رئيس الحكومة، ولا إبعاد رئيس الحكومة من الامور الممكن المغامرة بها اليوم. وبذلك تتعقد أزمة الحكم وتتقاطع مع استعدادات الافرقاء المحليين لاستقبال وتمهيد معركة رئاسة الجمهورية في الخريف المقبل، مع ما في هذا الاستحقاق من دلالات على مستقبل لبنان، ومدى ما يعكسه من توازنات اقليمية ودولية. واذا ما أخذنا في الاعتبار الهجوم السياسي الديبلوماسي الاسرائىلي، تحت عنوان تطبيق القرار 425، فإن الواقع اللبناني يخضع لضغوط هائلة متعددة الاتجاهات، وتعقيدات يصعب النفاذ منها. وفي هذا الاطار كانت حركة رئيس الحكومة لاجراء مشاورات واسعة مع جميع القوى والفاعليات الرسمية والشعبية، ومنها المرجعيات الروحية، تحت عنوان معالجة الاوضاع المالية والاقتصادية. وفي هذه المشاورات يحاول رئيس الحكومة رفع المسؤولية المباشرة عن نهجه الاقتصادي، وإشراك جميع فاعليات المجتمع في هذه المسؤولية، مردداً انه لم يكن حراً في تأليف الحكومات، ولا في معالجة المشكلات. ويحرص رئيس الحكومة على تحميل قطبين من التحالف الحاكم مسؤولية مباشرة عن الاوضاع، ما أدى الى انتقادات حادة انفجرت تلاسناً متوتراً مع رئيس المجلس النيابي. ولا تنفصل هذه التناقضات بالتأكيد عن مناخات اجتماعية تعتبر خطة الاعمار التي أطلقها رئيس الحكومة مخالفة للانماء الوطني الشامل والمتوازن الذي وعد به اتفاق الطائف. وان مضاعفات هذه الخطة تمركز الخدمات، وتغذي الشعور المناطقي والمذهبي بالحرمان. ولا يبتعد الصراع في السلطة عن معطى اقليمي ينسب لرئيس الحكومة تمثيلاً عربياً ودولياً تضغط مصالحه في اتجاه غير متطابق مع السياسة السورية، ومع مصالح حلفائها في لبنان. وفي هذا الاتجاه يمكن رصد حركة رئىس الحكومة، واللقاء المميز الطويل مع المرجعية المسيحية المارونية الاولى في بكركي، بهدف تجميع الاوراق الداخلية في هذا الصراع. وقد تسلم رئيس الحكومة مذكرة شاملة بالمطالب المارونية، وأبدى تفهماً لها متحفظاً عن إمكان تنفيذها في المدة القصيرة الباقية من عمر العهد. وسواء كانت هذه المشاورات مدخلاً لمعالجة الشأن المالي والاقتصادي وبالذات الحصول على تأييد لسياسة الحكومة في الاقتراض والانفاق، أو كانت ذات وظيفة سياسية تهدف الى استقطاب التأييد لموقع رئيس الحكومة، فإنها تكشف عن عجز المؤسسات التمثيلي، وعدم قدرتها على انتاج القرار الوطني. فالتحفظ عن المشاورات الذي أبداه رئيس الحكومة السابق سليم الحص هو تحفظ جوهري، لان اشراك المجلس النيابي في قرارات الحكومة التنفيذية عطل سابقاً، ويعطل، دور المجلس في المراقبة والمحاسبة ويزيد الحدود بين المسؤوليات الدستورية والسياسية عن الازمات القائمة. وقد سمع رئيس الحكومة الكلام نفسه في بكركي. فقيل له ان المشاركة يجب ان تتم داخل المؤسسات، وعبر حكومة الوفاق الوطني بشكل أساسي. ورغم المناخات الضاغطة داخلياً وخارجياً لم تبلغ قوى الحكم حد الاقتناع بفتح حوار حقيقي حول تنفيذ ميثاق الوفاق الوطني، وتدعيمه بميثاق اقتصادي اجتماعي، فضلاً عن خطة واضحة لمواجهة الضغوط الاسرائىلية في الجنوب. ولأن مذكرة بكركي حملت مطالب واضحة، وبنبرة متصاعدة ناقدة للاوضاع القائمة، فإن تأجيل المعالجات الوطنية ينذر بأجواء غير صحية لمسيرة السلم الاهلي وبناء الدولة.