فور أن زال احتقان الأزمة العراقية - الاميركية الأخيرة، أعلنت لندن اعتزام رئيس الوزراء توني بلير القيام بجولة في "الشرق الاوسط"، وقيل على لسان اكثر من مسؤول بريطاني ما جِماعه ان الزيارة تهدف الى تنشيط الدور الاوروبي في عملية السلام في المنطقة، وإظهار جدية مساعي الاتحاد الاوروبي تحت رئاسة بريطانيا نحو تحقيق تسوية عادلة للفلسطينيين، بالحماس نفسه الذي أبدته الأخيرة في سياق أزمة العراق. يود كثيرون في العالم العربي معنا تصديق هذا القول لولا خبرتهم بطبيعة السياسة البريطانية عموماً، وما أبرزته هذه السياسة من استتباع كامل لواشنطن في سياق الازمة العراقية بفصولها المتوالية خصوصاً، وبؤس وموقف واشنطن معلوم في قضية الشرق الاوسط. كان مشهد السياسة البريطانية وهي تسترشد بأمانة متناهية بخطوات واشنطن خلال الفصل الأخير من الأزمة العراقية، مشيراً للاشمئزاز بقدر ما هو مدعاة للسخرية، وبقدر من التأدب، يمكن وصف تصرفات بلير في سياق الازمة ب"صبي البلطجي" الذي ينعق بما يقول "المعلم" عن حق او بغير حق. ونحسب ان الاحتفاظ بهذا المشهد التذكاري مهم لمضيفي رئيس الوزراء البريطاني. ايضا من المفيد ان يشمل ملف المضيفين مجموع تصريحات بلير وطاقمه السياسي اثناء الأزمة، لتذكيره بالسخط العربي من حال بريطانيا العظمى سابقا ومواقفها المخالفة للسياق الاوروبي العام، وخروجها في حمأة الحماس للسياسة الاميركية وزمن الانجلو ساكون ومزاجه، عن الاجماع الاقليمي والدولي الرافض لديبلوماسية البوارج. وهناك امكان للاستئناس بالغضب الاوروبي بل وامتعاض قطاعات بريطانية، من جنوح السياسة البريطانية عن الخطوط العريضة للموقف الاوروبي، والاضرار التي ألحقتها لندن بمسيرة العمل الاوروبي المشترك وبالثقة العربية في مقاربة سياسية اوروبية مستقلة. ولمن يهمه الأمر، فإن بلير سيأتي متأبطاً حزمة كبيرة من اوراق الإدانات للسياسة الاسرائيلية تجاه تطبيق اتفاقات اوسلو وتوسيع المستوطنات ومحاصرة الفلسطينيين اقتصادياً. سوف يتحدث عن دور اوروبا في دعم مسيرة السلام وتقوية الاقتصاد الفلسطيني وتشجيع المفاوضات المباشرة، وسيدعو لاستئناف المسارين السوري واللبناني من اجل التوصل "للسلام الشامل". وقد يضع بعض "البهارات" على حديثه بالتذكير بقرارات الاممالمتحدة بخصوص الشرق الاوسط وسيكون ذلك من باب ذر الرماد في العيون، لأنه حتما سيستدرك بوجود تباينات بين الحالتين العراقيةوالفلسطينية، وستكون إعادة التعريف بحدود الدور الاوروبي، التي تنتهي عند تسهيل مهمة الوساطة الاميركية، خاتمة مناسبة لحديث بلير الشجي. من غير المنتظر ان يحمل بلير جديداً اوروبياً او بريطانياً على صعيد "ازمة الشرق الاوسط"، وهو بحضوره الى المنطقة لا يستهدف مفاجأتها بالجديد. كل ما في الأمر هو ان رئيس الوزراء معني بمحاولة ستر عورة السياسة البريطانية التي انكشفت بشدة بفعل الازمة العراقية، وتحسين صورة لندن العربية، والاعتذار من طرف خفي من الشركاء الاوروبيين عما ألحقه الموقف البريطاني من أذى بحق اطر التعامل الجماعي مع القضايا الدولية، ولا سيما تجاه منطقة الجوار العربي. وهذه مهمة لا يستطيع كوفي انان الاضطلاع بها كما اضطلع بتخليص لندنوواشنطن من المطب العراقي. يفعل المضيفون العرب خيراً لقضيتهم، إن هم أخذوا هذه الأهداف في الاعتبار، ومادمنا في معرض تعامل مع حقل السياسة من منطلق المصالح، فإن اقتضاء ثمن ما من رئيس الوزراء البريطاني ليس بالمطلب العزيز، اذ سوف يكون من السذاجة بمكان كبير، ان يأتي بلير ويروح من دون استنطاقه حول "ماذا بعد"؟ ماذا بعد سياسة الإدانات والغضب اللطيف من سلوك اسرائيل، بريطانياً وأوروبياً؟ ماذا بعد مساندة العرب بإصرار للشرعية الدولية مع العراق؟ لماذا لا يكافأ هذا الموقف بسياسة نظيرة مع فلسطين؟ ما الخطاب البريطاني والاوروبي المنتظر إن اتجه العرب الى إعادة الملف العربي الاسرائيلي الى الاممالمتحدة؟ هل ستنتفخ اوداج لندن وهي تبدي الغيرة على هذا الاتجاه مثلما حدث في الحال العراقية؟ وبالمناسبة، سوف تتزامن زيارة بلير والذكرى الخمسين لنكبة فلسطين. واذا كان من المتيقن ان يؤدي رئيس الوزراء بعض شعائر التهنئة للجانب الاسرائيلي، فإنه من الحصافة تذكيره بخطيئة بريطانيا بحق الجانب الفلسطيني، واذا كان بلير يتحرك من عقلية صاحب الدولة الكبرى - حتى لا نقول العظمى - العاطفة على الشرعية الدولية وحقوق الانسان، كما بدا من رطانة السياسة البريطانية إبان القضية العراقية، فلا اقل من ان نحثه على البدء بنفسه، بفعل شيء عملي للتكفير نسبياً عن هذه الخطيئة. ليس صعباً ان يعبر المضيفون العرب عن مللهم من "المكلمة" البريطانية والاوروبية المعقودة لسنوات كثيرة تجاه قضية الشرق الاوسط، فبريطانيا بدلالها على واشنطن بوسعها في اضعف الإيمان، وخز السياسة الاميركية ولفت نظرها الى مآخذ العرب على تعامل الغير بمعايير مزدوجة تجاه قضايا المنطقة، البعد الفلسطيني منها بخاصة. وعندما يزهو بلير، وفق ما هو متوقع، بعطايا اوروبا الاقتصادية للجانب الفلسطيني ويعد بالمزيد، يفترض ان نذكره بأن فلسطين لم تكن قبل نكبتها، بمداخلة بريطانية ثابتة موثقة، مدينة لأحد وما كان شعبها عاجزاً عن الوفاء بحاجاته الاقتصادية، فالدور البريطاني المطلوب يتعدى الاعتذار الاقتصادي الى الفعل السياسي أساسا. وربما لا ينبغي في كل الأحوال، ان تساهم السياسة العربية، الفلسطينية خصوصاً، في انتشال السياسة البريطانية من سقطتها العراقية القريبة ولا في رفع عبء تاريخها الفلسطيني الأبعد، بلا مقابل. ففي السياسة لا يُذهب السيئات سوى الحسنات. لقد فاحت أخيراً روائح استعلائية في الخطاب البريطاني تجاه العرب، وليس غير خطوات بريطانية جادة وعاجلة على مسارات التسوية العربية - الاسرائيلية، يمكنها تنقية الاجواء من عوالق هذه الروائح.