ما عرفت العربية كتاباً شغل النقاد والدارسين مثل "ألف ليلة وليلة"، ولا ينقضي عام من دون أن نعرف جديداً عنه، دراسة أو ترجمة. هذا يصح في فرنسا خصوصاً، إذ عرفت في السنوات الأخيرة ترجمات عدة لهذا الكتاب اندريه خوام، اندريه ميكيل وجمال الدين بن شيخ ....، ودراسات لافتة عنه، بالإضافة الى حلقة دراسية نظمتها مجموعة البحث "أمام" AMAM، في جامعة تولوز - لاميراي، وجمعت دراساتها في كتاب صدر قبل سنتين. أما ما يصح في القاهرة فمختلف، وحمل لنا في السنة المنصرمة جديداً عن طبيعة هذا الكتاب التكوينية: فقد أعادت "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، في سلسلة "الذخائر"، نشر الطبعة المعروفة بطبعة كلكوتا، وفق طبعتها القديمة في العام 1838، كما نشرت "دار الخيال" كتاباً حمل الجديد عن تكوين النص، وهو كتاب "ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية"،. فماذا عن الإصدارين هذين؟ إعادة نشر طبعة كلكوتا مفيدة طبعاً، لأن هذه الطبعة ما عادت متوافرة في الأسواق، إلا أن تقديمها الى القارئ لم يسلم من التباسات طاولت مدى صحة هذه الطبعة، ومدى قربها من أصول النص القديمة. فهذه الطبعة هي "الأتم" و"الأكمل" من طبعات "ألف ليلة وليلة"، إلا أنها ليست الأكثر قرباً من أصول النص القديمة. فقد أبانت دراسات عدة، ومنها خصوصاً الدراسة اللافتة التي قام بها محسن مهدي في تقديم كتابه "ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى" شركة ا. ي. بريل للنشر، ليدن، 1984، أن هذه الطبعة ملفقة في عدد من موادها، وهو ما يشير اليه القول في عنوانها، وهو أن النص هذا ليس "كاملا""وحسب وإنما "مكملاً" أيضاً. كما يفيد عنوان الكتاب الفرعي أن الكتاب طبع في "لسانه الأصلي العربي"، إلا أن هذا القول لا يغيب كون هذه الطبعة لم تحافظ على لغة المخطوط، بل المخطوطات، التي أخذت عنها. لهذا فقد بدا مفيداً لنا، قبل عرض جديد "ألف ليلة وليلة" بالعامية المصرية، أن نتوقف عند طبعات الكتاب المختلفة. لا يخالف محسن مهدي الشك في أن كتاباً مثل "ألف ليلة وليلة" قابل للتحقيق، ويجد أن المشكلة تكمن في أن متن الكتاب "لم يضبط"، وأصوله "لم تحقق"، واجداً أن النساخ والمصححين عاثواً فساداً فيه، فأخرجوا الطبعات المختلفة عن أصول غير معروفة وأخرى ملفقة أو موضوعة. أي أن الباحث مهدي لم يخالجه شك في أن مشكلة الكتاب هي عدم عمل المحققين الرصينين عليه، وأن له بالتالي، مثل غيره من الكتب العربية القديمة، "أصلاً"، و"ثابتاً" بالضرورة: "فحكم أي العاملون على الكتاب قبله أن الكتاب لا أصل له إلا ما حكته القصاص وما نقلته شفاهاً الرواة، وأنه أبداً كالماء الجاري يتلون بألوان مجاريه، "فظن أنه ليس هناك متن ولا كتاب". وهو ما سعى اليه مهدي في نقده، بعد غيره من المستشرقين، للطبعات الصادرة قبل تحقيقه في العام 1984 . ويميز مهدي، عن حق، بين نسخ الكتاب الخطية، التي جرى تناقلها بين أوروبا والشام ومصر لقرون عدة، وبين طبعة الكتاب الأولى، التي صدرت في كلكوتا في الهند، في جزئين الجزء الأول في العام 1814، بعنوان: "حكايات مائة ليلة من ألف ليلة وليلة"، والجزء الثاني في العام 1818، بعنوان "المجلد الثاني من كتاب ألف ليلة وليلة يشتمل على حكايات مائة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد". فمنذ صدور الطبعة الأولى، هذه، بدأ التحريف يطاول "ألف ليلة وليلة": فالشيخ أحمد بن محمود شيرواني اليماني، المدرس في قسم اللغة العربية في "كلية فورت وليم"، لم يحافظ على الأصل الذي نقل منه، بل صححه في عدد من المواضع وفق طبعه اللغوي، كما أقحم في المخطوط الذي استقى منه الحكايات حكايات مستقاة من أصول أخرى. بل أكثر من ذلك، وهو أن النسخة التي عمل عليها شيرواني، و"نقحها"، منقحة هي الأخرى عن نسخة خطية أخرى، ومنقولة في حلب بين عام 1750 و1771، للطبيب الانكليزي باترك رسل، نزيل حلب آنذاك. ويخلص مهدي الي القول أن طبعة "ألف ليلة" الأقدم "نص ملفق ابتدع تركيبه والكثير من لغته". كما أصابت الطبعة الثانية، طبعة برسلاو، مشاكل جديدة زادت من وصول "ألف ليلة وليلة" المختلف الينا طبعة تلو طبعة: الطبعة الأولى، السابقة، لم تكن كاملة، وهو ما تلافاه العاملون على طبعة برسلاو، التي صدرت في أوقات مختلفة، بين 1824 و1843، وأتى عنوانها: "هذا كتاب ألف ليلة وليلة من المبتدأ/ المبتدا إلى المنتهاء/ المنتهى". وقام المستشرق دانكان ماكدونالد بنقد هذه الطبعة، وأظهر أنها، بخلاف ما تدعيه، غير مأخوذة عن نسخة خطية تونسية، بل عن غيرها مما جري نقله في باريس، ومن نسخ خطية عديدة، بعضها شديد التأخر، عدا أنها نسخ جرى التلاعب في مادتها، مثل تقسيم الليالي وغيرها. أما الطبعة الكاملة والمستندة الى نسخة أو أصل خطية واحدة فهي طبعة بولاق، الصادرة في العام 1835، ويرجع تاريخ هذه النسخة وغيرها المشابه لها الى النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، وجرى جمعها في القاهرة من أصول متفرقة لم يكن أكثرها جزءاً من الكتاب كما حفظته النسخ القديمة. محسن مهدي نقد هذه الطبعة نقداً مبنياً على حجج وأدلة، غير أنه لم يتورع - وإن في مرة واحدة ويتيمة في دراسته النقدية - عن اجتراح رواية لتفسير ما أصاب هذه الطبعة من تلاعبات: "يظهر أن السياح الأوروبيين ممن زار القاهرة خلال القرن الثاني عشر من الهجرة القرن الثامن عشر من الميلاد - وكانوا قد عرفوا الكتاب مترجماً الى لغاتهم من نسخ خطية اعتقدوا هم أيضاً أنها ناقصة - جاؤوا يبحثون عن نسخة "كاملة" فقام شيخ من نساخ القاهرة "بجمع" نسخة جديدة من الكتاب لهم. جمع فيه الى ما وجده آنذاك في النسخ "الناقصة" وكان بينها نسخ "أكملت" النسخ القديمة بعض الشيء من دون أن تأتي بألف ليلة وليلة ما قدر على استحصاله من كتب القصص والحكايات والسير من دور الكتب وباعتها، فألف متناً جديداً قسمه الى ألف ليلة وليلة ووضع في آخره الخاتمة المعروفة". هي "رواية" مهدي، إلا أنها تستند الى بعض الأدلة، بعد أن قارن بين نسخ مختلفة سابقة على نسخة الطبعة هذه وبين نسخة الطبعة، فظهرت له الزيادات فيها. لهذا يخلص مهدي الى القول أن نسخة بولاق "الكاملة" ملفقة، عدا أن ناشرها أعمل يد التصحيح فيها، وهي لا تعدو كونها رواية جديدة للكتاب تنقصها خصائص عصر وفن الرواية القديمة. أما طبعة كلكوتا الثانية 1839 - 1842، والتي أعيد نشرها في القاهرة أخيراً، فمأخوذة عن أصل مصري جلبه الى الهند الميجور "طرنر مكان"، إلا أن يد التصحيح أصابت النسخة هذه في عدد من المواضع، وزيدت عليها زيادات من طبعة كلكتا الأولى، فأتى الكتاب الجديد مثل ما يفيد عنوانه "كاملاً مكملاً". ويخلص مهدي من مراجعاته هذه إلى القول: "شاءت الأقدار أن يبقى كتاب هذا شأنه في ثلاث طبعات مزيفة وطبعة بولاق التي تزخر بالتحريف والنقص، يقرأها الناس من دون علم بما تقدم من نسخ الكتاب الخطية وما تأخر، أو معرفة بصلة هذه الطبعات بالأصول التي اعتمدتها أو إدراك لطبيعة أصول الكتاب الخطية: ما هي ومتى نشأت وما جرى للغتها وتركيبها عبر القرون التي نسخت فيها". اجتهد مهدي كثيراً، وعمل طويلاً على طبعات ومخطوطات "ألف ليلة وليلة" المختلفة، واتسم عمله بمسعى "تثبيتي" إذا جاز القول لهذا الكتاب الثمين، فيقول مهدي: "والنسخ الخطية المعروفة اليوم ليست نسخاً لكتاب بالمعنى المتعارف عليه لهذا الاسم بل يجب فحصها وتصنيفها الى روايات وتحقيق كل منها على حدة"" و"إعادة تركيب أصل من نسخ متعددة لكتاب مثل هذا الكتاب هو أمر مشكل أيضاً". هذا ما بدأ به مهدي، فجمع النسخ الخطية المتوافرة لا الطبعات، وقارن موادها، وتوصل الى وجود "عائلتين" من النسخ، هما: العائلة المصرية والعائلة الشامية، جازماً بأننا "لا نكاد نعرف اليوم شيئاً عن متن الأمهات القديمة التي سبقت النسخة الأم، وهي نسخة لا يعود تاريخها الي ما قبل القرن السابع من الهجرة القرن الثالث عشر من الميلاد". ويفيدنا مهدي عن وجود ورقة من نسخة سابقة على النسخة هذه، تعود الى بدايات القرن الهجري الثالث، غير أنها تشير الي عنوان الكتاب وحسب "كتاب فيه حديث ألف ليلة"، لا الى متنه، بالإضافة الى ذكر ابن النديم والمسعودي للكتاب. هناك أصل، إذن، إلا أننا لا نملك شيئاً من متنه، وأول ما يبلغنا منه هو النسخة الأم التي لا نملكها بل هي أصل أول للكتاب الذي ننظر في نسخه الخطية. لهذا فإن تحقيق مهدي يتناول النسخة الدستور، أي ما بلغ من النسخة الأم، وهي أصل النسخ الخطية المتفرعة، كما قلنا، في عائلتين. ولو عدنا الى النسخ المتوافرة لوجدنا أن أقدمها، في الفرع الشامي، يرقى الى القرن الرابع عشر من الميلاد، وأن نسخ الفرع المصري لم تمتزج أبداً بنسخ الفرع الشامي، وليس ما يعود الى ما قبل القرن السابع عشر الميلادي. إذا وجدنا في تحقيق مهدي أموراً نافعة في التحقيق، - وفيه الكثير منها، من دون شك - فإن النفع هذا لا يغيب عن بالنا كونه يبحث عن "أقدم" الأصول، ولكن المتوافرة. ولكن هل يصح في الكتاب ما يصح في غيره، وهو وجود أصل أول فعلاً تفرعت منه الأصول، بل النسخ اللاحقة؟ وهل وجود أصول سابقة من الأصول المغيبة كان سيغير شيئاً من حقيقة هذا الكتاب؟ بدا لنا مفيداً، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، أن نعرض لجديد ما يقدمه كتاب "ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية"، الذي قام بتحقيقه الباحثان هشام عبر العزيز وعادل عبدالحميد، ذلك أن العرض هذا يفيدنا أننا قد نجانب الصواب إذا ما جعلنا من الجهد "التثبيتي" لألف ليلة وليلة في نص "ثابت" غرضاً لعملية نقد هذه المخطوطات والطبعات. فهذا الكتاب الجديد يشتمل على خمس حكايات فقط، ومنها حكاية واحدة واحدة موجودة في النص المتداول لألف ليلة وليلة، عدا أنه مكتوب بالعامية المصرية. كما نتحقق في هذه الحكايات من كونها تنقسم الى حكايات وحسب، أي لا تنزل في قسمة الليالي أبداً، مثلما نلقى ذلك في طبعات الكتاب المتوافرة. ماذا نقول عن الخصائص التكوينية للحكايات هذه؟ أهي نسخ محرفة عن غيرها؟ أعلينا أن ننسب اختلافها عن غيرها الى أخطاء في النقل وهو ما يجيب عنه عمل المحققين، مثل مهدي وأقرانه، أم الى عمليات "تملك" طاولت النسخ، فجعلت ناقلي الحكايات يعيدون إنتاجها من جديد وهو ما يتطلب نظرة نقدية مختلفة، غير النظرة "التثبيتية"؟ نثير هذه الأسئلة، ذلك أننا نعتقد، مع تسلسل صدور طبعات مختلفة من "ألف ليلة وليلة"، ومع تقدم المجهودات النقدية في فحص مخطوطاتها ومنها ما يظهر من مخطوطات جديدة، مثل الحكايات الخمس المصرية، وغيرها ربما في السنوات المقبلة، أن علينا أن نجانب النزعة التثبيتية التي تتحكم بالعمليات النقدية أو التحقيقية التي تطاول هذا الكتاب، وأن نحاول نزعة أخرى ترى الى مدونات هذا الكتاب المخطوطة، لا الطباعية، بوصفها مدونات، لا نسخاً عن أصول ضائعة أو محرفة. لا يعني هذا أن مجهودات مهدي - الأثمن في هذا النطاق - عديمة النفع، بل ساهمت أكثر من غيرها في إجراء مقارنات نافعة بين المخطوطات المختلفة، عدا أنها أظهرت معالم الاختلاق والتزوير والإقحام والتنقيح والزيادات التي طاولت طبعات الكتاب المختلفة، كما عرَّفتنا كذلك على بعض الأحوال التي أصابت هذا الأثر، في تاريخه المعروف على الأقل. إلا أن مسعى مهدي في وضع صيغة جديدة لألف ليلة وليلة، بوصفها الأقرب من الأصول العربية الأولى، غير مقنع في حاصله: طبعاً نحن أمام نص متصل، مثل النصوص التراثية المتصلة التي يعمل عليها المحققون عادة، غير أن الحالة مختلفة مع مخطوطات "ألف ليلة وليلة"، ذلك أن اتصال هذا النص يبقى دون الاتصال المتحقق بين مخطوطات مختلفة عن كتاب واحد: فالفروقات بين المخطوطات هذه تبقى طفيفة لا تتعدى تحريفاً في كتابة لفظ أو عبارة، فيما الفروقات في مخطوطات "ألف ليلة وليلة" تتعدى ذلك، وتصل الى عدم ايراد حكايات أو مقاطع وغيرها. ملاحظة أخرى: طبعاً توصل مهدي الي الكشف عن فروقات بين المخطوطات ما أتاح له القول والفصل في أسبقية وأقدمية هذا المخطوط أو ذاك، إلا أن الفروقات هذه لا تعني أن ما وضعه في صيغة كتابية، هي المطبوعة، توافق في صورتها الإجمالية مخطوطة وجدت في زمن ما، لكنها ضاعت مع توالي الأيام. مخطوطات "ألف ليلة وليلة" مدونات مختلفة، وليست فروعاً أو نسخاً محرفة عن أصول يمكن الوصول اليها أو الى بعض أحوالها. وهي مدونات لها ما يؤلفها، في متنها الحكائي، وفي ما دعت اليه حاجة جمعها وروايتها في عهد ما في مخطوط، وإن صدرت عن حكايات سابقة ومعروفة لنا ربما، اليوم، لا لغيرنا في عهد جمعها، أو عن أصل ما ضاع في الزمن أو وصلت منه نسخ ومخطوطات أو مدونات أو منقولات شفاهية. فالحكايات الخمس التي نشرها المحققان المصريان، على سبيل المثال، ليست مقطوعات من نص مفقود، بل هي مدونات مكتملة في ذاتها، في سردها، وفي البواعث التي أدت الى حصولها واجتماعها حكاية حكاية في عهد ما. وعلينا بالتالي أو ننظر الى المدونات المختلفة، بوصفها تنتسب الى الثقافة المتناقلة، لا الى الثقافة الثابتة والمثبتة.