هل من الممكن تخيل مائدة مكونة من الفقع الكمأة والمرقوق او الجريش اكلتان شعبيتان سعوديتان المغمور بالسمن البلدي، بالاضافة الى اعداد كبيرة من الجراد المطبوخ؟ هذه المائدة الدسمة والغريبة الى حد ما تبدو للبعض في السعودية والخليج قمة المتعة التي لا تضاهى، فهي جمعت النوادر خصوصاً اذا كانت في وسط صحراء مخضرة وحول نار تتقد. والمثير للاستغراب هو ان الجراد لا يزال يحظى بإقبال السعوديين، والخليجيين ايضاً، كاحدى الهوايات الربيعية الثابتة ذات الجذور البدوية التي لم تتغير مع الزمن على رغم تجاوزهم حاجز الفاقة منذ عقود عدة. يباع الكيلو الواحد من الجراد في بعض الاسواق السعودية حالياً بحوالى مئة دولار وسط اقبال كبير من اناس يحبون اكله ويحرصون على اقتنائه وشرائه مهما بلغ سعره، بل لعل ما يرفع اسعاره هو شدة التنافس. ويعتقد كثير من السعوديين بأن للجراد فوائد علاجية نادرة لأنه يتغذى على انواع كثيرة من النباتات، ولديهم في هذا الشأن مثل يقول "اذا جاء الجراد صرّ الدواء" بمعنى ان الحاجة للدواء تنتفي مع وجود الجراد. وعادة أكل الجراد في السعودية سلوك فرضته سنوات الجوع والفقر حينما كان منقذاً من حالات الفاقة الشديدة خصوصاً انه يجيء في فورات كبيرة. وبينما كانت اسرابه تقضي على محاصيل المزارعين وتدمرها لتحيل سنتهم الى القحط والبؤس، كان البدو يسارعون لاصطيادها باعتبارها نجدة وانقاذاً، ويحتفلون بطقوس صيدها وتخزينها أيما احتفال محققين بذلك المثل القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد"! ولعل اطرف تطبيق لهذا المثل كان في العام الماضي عندما اتلفت اسراب الجراد المحاصيل السودانية مسببة كارثة، ثم مرت على الخليج ليتم صيدها وأكلها حتى انها كانت تشحن في اكياس بين البلدان الخليجية! ويبدو ان القدرة العلاجية المغالى فيها عن الجراد تخلقت كمسوغ لأكل هذه الحشرة الضئيلة ذات الشكل المنفر والتي لا يتجاوز طولها 5 سم. واستمرت هذه الصورة في الرسوخ على رغم تخطي مرحلة الفقر وتوافر جميع البدائل متخذة صورة تتلاءم مع المعطيات الجديدة. فأصبح شراء الجراد وتقديمه على المائدة يمثل لدى البعض احتفاء تقليدياً يرتبط بالاصالة، ولدى آخرين يعبر عن القدرة على امتلاك النادر باعتبار ان الجراد لا يغزو البلد كل عام! ومع ان معظم الجراد يتعرض للرش بالمبيدات لتسميمه والقضاء عليه حماية للمزروعات، فان ذلك لم يمنع الناس من الاستمرار في شرائه وأكله غير مبالين بالتحذيرات الرسمية. ويقدمه الناس عادة مطبوخاً بالماء والملح، ويلجأ بعضهم لتجفيفه لحفظه اطول فترة وتقديمه في اوقات غير متوقعة. على الجانب الآخر يبقى الفقع هو المهيمن لدرجة ان السعوديين كانوا يشترونه، في فترات القحط، من سورية والمغرب ولكن من دون احتفاء لأنه غير جيد من وجهة نظرهم. وهذه السنة هو متوافر بكثرة وفي مناطق عدة من السعودية بعد ان غمرت البلد امطار كثيفة مع بداية الموسم ما اثمر ظهوراً مكثفاً ومبكراً للفقع بأنواعه المختلفة. ومن الطبيعي ان يرى المرء هذه الأيام، وهو في سيارته، اعداداً من الرجال والنساء على جوانب الطرق في شمال السعودية وعند منطقة القصيم يحملون بأيديهم العصي ويبحثون في الأرض بتركيز واستغراق عن الفقع الذي يغرم الخليجيون به كثيراً ويستمتعون بطريقة التنقيب عنه، وكأنهم يمارسون هواية متواضعة مشابهة لهواية الصيد المكلفة. وفي حفر الباطن وضواحيها شمال شرق السعودية وهي اشهر اسواق الفقع، تكثر السيارات الخليجية القادمة من الكويت والامارات وقطر للتخييم وصيد الفقع او شرائه. ونتيجة الوفرة تدنت اسعاره الى حدود دنيا بلغت حوالى خمسة دولارات للكرتون عادة لا يباع بالكيلو وإنما بالكرتون او الكيس بعد ان كانت في اوقات الجفاف تصل الى 400 دولار. والفقع نبات فطري يخرج من الأرض كما يخرج الفطر. وليس له ورق وجذوع ويستدل عليه بتشقق الأرض. ويظهر بعد حوالى سبعين يوماً من سقوط اول الامطار المترافقة مع دخول الوسم. ومن اشهر انواعه "الزبيدي" ولونه ابيض وطعمه لذيذ، وهناك انواع اخرى منها الغلاسي والجباة لكنها اقل جودة. وأكثر الناس فرحاً بالفقع هم البدو الذين يسعون منذ اوقات مبكرة الى تحديد مواقعه واستخراجه للمتاجرة به. وللفقع قيمة غذائية عالية ولكن يجب تنظيفه بحرص من الاتربة العالقة به لتأثيرها السيئ على الكلى. ويُعتقد بأن افضل طريقة لغسله هي نقعه في الماء لبضع ساعات قبل طبخه. ويظهر الفقع هذا العام في المناطق الشمالية خصوصاً حفر الباطن ورفحاء والصمان ومعظم اراضي نجد. ويتهاداه الناس في ما بينهم، وقد حرص الكثيرون على تقديمه على موائد افطارهم في رمضان كشكل من كرم الضيافة. ويزدهر مع الفقع والجراد السمن البري والزبد والإقط والأكلات الشعبية الدسمة، ولكن ماذا يضير الناس ما دام الجراد هو الدواء؟