هل كذب الرئيس الأميركي بخصوص علاقة جنسية مع امرأة شابة كانت تتدرج في البيت الأبيض؟ وهل طلب الرئيس منها ان تكذب وهي تحت القسم؟ هذان السؤالان حاسمان لمصير رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية والجواب بالايجاب على أي منهما سيؤدي في الأسابيع المقبلة الى استقالة وليم جفرسون كلينتون من جراء اشمئزاز عارم ومحق لدى المجتمع الأميركي. ففي مثل هذه الحال يكون الرئيس قد كذب مرتين علناً، في المرة الأولى متصرفاً بشكل لاأخلاقي، وفي الثانية متصرفاً بشكل لاقانوني. على الرئيس، بالطبع، ان يستقيل اذا كذب علناً. وعليه، بالطبع، ان يستقيل اذا أوحى لأي شخص بأن يخلف وعداً قانونياً. الا انه يبقى التساؤل عن وجاهة اخضاع الشخص الذي تنصب عليه عملية الاقتراع الشاملة للمجتمع الأميركي لمثل هذه الأسئلة، وهو المسؤول الوحيد في البلد الذي تتكرس فيه الانتخابات على مثل هذا المستوى الشامل. يجدر اذاً تخطي هذين السؤالين، والنظر في السبب الذي أدى الى طرحهما في المقام الأول. يتعلق السؤال الأول بالأخلاقية في الشأن الأميركي العام. والقضية لا تتعلق نظرياً بقيام علاقة جنسية أم لا، بل بلجوء الرئيس الى الكذب بصددها. وبالطبع، لا مجال للكذب في قضية هي في حد ذاتها غير مستهجنة. لكن الملازمة الزوجية ليست في معظم بلدان العالم سبباً وجيهاً لمساءلة المسؤول السياسي. ففي فرنسا أو العالم العربي، كما في بقية المعمورة، لا يمكن تصور نشوء معضلة كالتي برزت في الولاياتالمتحدة، فحياة المسؤولين الخاصة ليست مبدئياً موضع الشأن العام. ان الخيانة الزوجية لا تشكل جزءاً من مساءلة المجتمع، وكان الرئيس الراحل فرنسوا ميتران معروفاً بها، بل انه أعلن على الملأ وجود ابنة غير شرعية من دون ان يهتز ساكن في فرنسا أو يطلب أحد منه ان يستقيل. وليس امر ملازمتهم زوجاتهم جزءاً من مساءلة المجتمعات العربية رؤساءها ووزراءها. اما في أميركا فقد انتقلت الحجة مع الوقت باتجاه فرض علاقة جنسية حصرية على الرئيس كشرط لبقائه في الحكم. واذا كانت العلاقة الجنسية بطبيعتها شأناً خاصاً، وليست في حد ذاتها جزءاً يطاله القانون، يجدر التساؤل متى ولماذا أصبح الصدق الزوجي مفصلاً يدور حوله استمرار رئيس منتخب في الحكم. فانقلاب الموازين بهذا الشكل وفي مواضيع هي في صميمها شأن خاص، يجعل من النظام السياسي الأميركي بأسره عرضة للانهيار ويفرض أسئلة مربية لا تجد صنواً لها في سائر المعمورة، مخضعة مسؤولية المنتخبين لعملية تمحيص تخلط ما بين أسمى المعاني في الحقل العام، وهو مسؤولية رئيس الجمهورية في السدة، وبين العبارة القصوى في الشأن الخاص، وهي العلاقة الجنسية. قد يكون الخطأ الأساسي بدأ عندما أنكر غاري هارت أي اساءة تصرف زوجية وتحدى الصحافيين خلال الحملة الانتخابية عام 1988 ان يثبتوا علاقة جنسية غير معلنة، فرفعوا التحدي وأبرزوا صوراً محرجة. وكان هارت قد كذب، فأتى ذلك على آماله الرئاسية. وقد ينفع التساؤل عن مجرى الأمور لو انه أو لو ان أي مسؤول أميركي رفيع المستوى تجرأ على الاعلان على الملأ، وعلى الصحافة، ان هذه القضية ليست شأناً عاماً وانها تتعلق به، وبه وحده. فلو لم تكن القضية شخصية، لعاقب القانون عليها. وتظهر صدارة القانون بزخم في السؤال الثاني، وهو الأهم، الذي تطرحه قضيتا مونيكا لوينسكي وبولا جونز. وبالنسبة الى دعوى جونز، فالتهمتان ضد الرئيس هما التحرش الجنسي واساءة استعمال السلطة. تدّعي جونز ان كلينتون، الذي كان آنذاك حاكم ولاية اركنسو، طلب منها ان تقيم علاقة جنسية معه، وتدّعي ان رفضها الاذعان له اساء الى ترقيها في العمل. والتهمتان يعاقب عليهما القانون الفيديرالي. وفي القضية الحالية، فإن التهمة ترتكز على طلب الرئيس من الشاهدة مونيكا لوينسكي الإخلاف بالقسم. اما خارج التهمتين، فلا مأخذ قانونياً على الرئيس. كيف يمكن رئيس الجمهورية ان يصل الى حال تفرض عليه دفع تهم التحرش الجنسي والتآمر ضد القانون في دعاوى مدنية؟ والجواب في القرار الذي أصدرته المحكمة العليا الأميركية في قضية جونز ضد كلينتون في 27 أيار مايو 1997. وفي هذا القرار، سمح قضاة المحكمة العليا التسعة للدعوى المدنية التي أقامتها بولا جونز بأن تستمر ضد رئيس لا يزال في الحكم. فبناءً على هذا القرار المحوري، استطاع محامو جونز ان يستحصلوا على شهادات من الحلقات الضعيفة في محيط الرئيس: هذا ما حدث بالنسبة الى المتدرجة الشابة مونيكا لوينسكي، التي أدت شهادتها، بدورها، الى التدخل المزمع من جانب الرئيس ليردع الامرأة الشابة من الادلاء بالحقيقة. وهكذا دخلت مونيكا لوينسكي الساحة، بعدما عاينها محامو جونز كأضعف الحلقات في ترسانة الرئيس. وهذا بالفعل عجيب، ولقضاة المحكمة العليا مسؤولية كبيرة فيه لأنهم فتحوا بقرارهم مجالاً واسعاً للدعاوى المدنية ضد رئيس في الحكم. واذا كان القضاة التسعة توافقوا على ضرورة اقامة الآنسة جونز "يومها في المحكمة"، وأوضحوا ان هذا اليوم لن يؤجل حتى نهاية خدمة الرئيس، وحده القاضي براير أصاب، في قراره المستقلّ، واستدرك النتائج الوخيمة: "بسبب الأهمية الخاصة لمسؤوليات الرئيس، فإن تحوير اهتماماته بسبب دعاوى شخصية ضده يشكّل خطراً مميزاً لعملية الحكومة الطبيعية". "وبالفعل"، أضاف القاضي الحكيم، "فإن دعوى تلهي مسؤولاً عن أعماله الرسمية بشكل ملحوظ هي دعوى تفرغ قراراً رسمياً من فحواه…". وهكذا صارت شكوك القاضي براير حقيقية بنى عليها محامو الآنسة جونز الفخ الذي قد يهدم الرئيس كلينتون. ففي الأسابيع المقبلة، بل في الشهور المقبلة، سيخضع كل تصرف مستقل لرئيس الولاياتالمتحدة لشبح ما وصفه شكسبير بأنه "الهاء للأذهان المحمومة بنزاعات اجنبية".