ضحك النقاد وجمهور المشاهدين في بريطانيا والولايات المتحدة والدول الغربية عندما عرض الفيلم الكوميدي: "اربعة أعراس وجنازة" الذي اخرجه في بريطانيا مايك نيول وأبدع في تمثيله هيو غرانت فنال عن جدارة جائزة افضل ممثل لعام 1995، وتجلت فيه موهبة الممثلة الجذابة اندي ماكدويل. نجح الفيلم في شباك التذاكر ايضاً فرسم الابتسامة على وجه كل من شارك في التمويل المتواضع. ولا يزال انتاج هذا الفيلم يذكر في معرض المقارنة بأفلام هوليوود التي يكلف الواحد منها اكثر من ميزانيات بعض الدول النامية لأكثر من عام. والفيلم افضل مثل على اننا نضحك احياناً حينما يحق لنا ان نبكي كما لاحظ المعري قبل قرون. فالرسالة الخبيئة بين لقطاته تشيد بسطوة الحب والجنس لكنها تشكك في الزواج كإطار اجتماعي لعلاقات الجنسين. يقاوم تشارلس هيو غرانت الحب بعناد ثم يستسلم في نهاية الفيلم لنداء قلبه، لكنه يشترط على كيري اندي ماكدويل ان تعيش معه دون عقد قران "لأن الزواج يشكل خطراً على صفاء الحب". فتردد معه كلمات القسم الذي يؤدى في بريطانيا عند عقد القران مع تغيير في الصياغة يقلب المعنى ويؤكد التعهد بعدم الزواج. يبرهن هذا الموقف بصرف النظر عن الرأي في مغزاه ان الحوار الذكي الذي كتبه ريتشارد كيرتيس من اهم العوامل التي ساعدت على نجاح الفيلم. يلقي الفيلم بقعة ضوء على العلاقة بين الفن والمجتمع اذ يبين اثر السياسات المالية والضرائبية على كيان الاسرة وعلى الموقف من الزواج. ومن سخرية القدر والسياسة ان القوانين التي صدرت ابان عهد السيدة التقليدية المحافظة مارغريت ثاتشر اصابت العائلة البريطانية في مقتل. فزيادة الاعانات المالية للفتيات غير المتزوجات ميزتهن على الامهات المتزوجات وأفضت الى تشجيع الحمل والولادة بدون زواج. كما افضت ضمن عوامل اجتماعية اخرى الى الاستهانة بالارتباط بالرجال او زواجهم لأن الدولة تحل محل الرجل في الانفاق على الطفل. تناقصت بذلك مكانة "رب الاسرة" الذي يكد ويكدح ليعول الاولاد وأم الاولاد. الاحصاءات مذهلة: مئة الف فتاة يحبلن دون زواج في بريطانيا سنوياً. وتنتهي اربع من كل عشر زيجات بالطلاق الذي يسّرته قوانين فصلت بين ضريبة الدخل للزواج والزوجة. كانت الضريبة في الماضي على العائلة كوحدة اقتصادية فصارت لكل شريك في بيت الزوجية على حدة وتصدعت الوشيجة الاقتصادية التي تساهم في الحفاظ على الزواج. ثم خسر المحافظون انتخابات أيار مايو 1997 لكنهم كانوا قد ادركوا قبل الانتخابات اهمية تعديل القوانين على الاقل بالنسبة لاعانة الامهات غير المتزوجات والآباء العزاب. فلما تولى حزب العمال مقاليد السلطة ايد المحافظون رئيس الوزراء توني بلير في عزمه على تعديل القوانين بصورة تنقذ الاسرة في بريطانيا. بيد ان توني بلير يواجه مشكلة كان افضل المعبرين عنها الكاتب الصحافي جون لويد نيوستيتسمان - 19/12/1997 وهي انه كسياسي متمرس لا يستطيع ان يجاهر بالدعوة الى "انقاذ العائلة" صراحة، رغم ورود ذلك في حملته الانتخابية. فقد ساعده على الفوز استقطابه لعناصر اكثر تحرراً وتسامحاً من مؤيدي المحافظين. وفي وزارته نفسها وزراء كبار براون - مندلسون عُزَّاب، ووزراء لديهم علاقات خارج اطار الزواج ووزيرة اعلنت للملأ انها تميل جنسياً للنساء لا للرجال. كما ان بلير احتضن اميرة ويلز الراحلة ودافع عنها رغم علاقتها العلنية خارج اطار الزواج. فلو ان رئيس الوزراء قال صراحة انه يريد انقاذ العائلة التقليدية لانبرى له عشرات الصحافيين والمصورين قائلين: "وزراؤك في بيوت من زجاج فإياك وهذا المنطق!"، لا سيما وان رئيس الوزراء السابق جون ميجور دفع ثمناً غالياً لشعار "العودة الى الأساسيات" الذي رفعه باسم الاستقامة والامانة ومكارم الاخلاق، فتصدى الناقدون لوزرائه ونواب حزبه فاضحين اسرارهم وكاشفين عوراتهم الاجتماعية. ورغم ان توني بلير أعلن انه يفرق بين الحياة الخاصة والمهام الرسمية للعاملين في الوظائف الحكومية العامة الا ان طلقات التحذير باتجاهه بدأت بالفعل على يد الاعلامية المرموقة ليز فورغان التي كتبت في الصحيفة المسائية "لندن ايفننغ ستاندارد" في 28/1/1998 متهمة رئيس الوزراء وبعض المقربين اليه بشن "حملة صليبية اخلاقية" متزمتة. يوفر هذا الموقف مدخلاً مناسباً للجاليات العربية والاسلامية في بريطانيا. فتماسك العائلة من أهم السمات التي حملتها هذه الجاليات معها الى بريطانيا. وبوسعها - غير متملقة ولا مفتعلة - ان تساند سياسات دعم العائلة في بريطانيا وتتخذها وسيلة لتوثيق العرى مع الحزب الحاكم، فتبتعد بذلك عن عقلية "الجسم الغريب" التي تغلب عليها. جعلت هذه العقلية الجاليات مجرد امتداد في اوروبا للبلدان العربية، ومجرد نسخ مصغرة من الدول النامية تتقوقع في مختلف المدن وتنظر للمجتمع البريطاني بمزيج من التوجس والازدراء والرفض. يفضي ذلك الى اعتبار المجتمع المضيف كتلة من الشر والاستهانة بأنقى وأفضل تقاليده، ثم الاستخفاف بالتراث الديموقراطي البريطاني والتطلع باسم حب الوطن الام الى النظم العسكرية والديكتاتورية والدفاع عنها وعن انتهاكها لحقوق الانسان. عقلية "الجسم الغريب" هذه هي المسؤولة عن العزوف عن اجادة اللغة الانكليزية حتى بعد اقامة تدوم عشرين سنة! وتفادي المشاركة في لجان المدارس وفي الجمعيات والاندية المحلية. وهي المسؤولة عن القراءة الخاطئة للخريطة السياسية البريطانية. وأفضل أو أسوأ مثل لذلك هو السخط العاجز الذي ساد اوساط الجاليات العربية كرد فعل لتصريحات قادة حزب العمال الحاكم حول الصراع العربي - الاسرائيلي. بلغ الجهل بخفايا السياسة البريطانية وبظلال الكلمات والتعبيرات ان البعض اعتبر تلك التصريحات سلبية ومنحازة كلية للصهيونية. صحيح ان توني بلير لم يذكر الويلات التي حلت بالشعب الفلسطيني من جراء انشاء اسرائيل قبل خمسين سنة. لكنه ذكر "حتمية" اقامة دولة فلسطينية ودعا الى وضع حد للاستيطان في الضفة الغربية وانسحاب القوات الاسرائيلية وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في اوسلو. كما ذكَّر بأهمية مبدأ الارض مقابل السلام. لم ترض هذه التصريحات مشايعي الليكود في بريطانيا، وحتى صحيفة الجالية اليهودية التي تتجاذبها عدة تيارات اوردت حديث بلير عن حتمية الدولة الفلسطينية مرتين في الصفحة الاولى كما نقلت النص الكامل للجملة الخطيرة التي قال فيها: "لا يستطيع اي طرف مشارك في عملية السلام ان يستهين بالنفوذ المشترك للاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة". جويش كرونيكل 12/12/1997. ولئن افترضنا ان ما جاء في حديث توني بلير عن ضمانات السلام لاسرائيل كان - على الاقل جزئياً - نتيجة لثقل الجالية اليهودية في بريطانيا وفي حزب العمال، فاننا لا نستطيع ان نفترض ان جالياتنا العربية كانت في ذهن المتحدث الكبير، هذا بالرغم من اننا اكبر عدداً من الجالية اليهودية ورغم وجود مسيحيين عرب يمكن ان يشكلوا جسراً ليس لليهود ما يعادله. ولا يعيبنا ان نقتبس من تجربة الجالية اليهودية، فلها خبرة اطول منا في هذه الديار. وهي ذات نفوذ لأنها جزء من نسيج المجتمع لا يعيش افرادها بعقلية "الجسم الغريب" لذلك يتفاعلون مع الاحداث من الداخل ويصيرون نواباً ووزراء في الاحزاب الرئيسية. كما انهم يتناغمون مع افضل ما في المجتمع الديموقراطي وينتقدون السياسات الخاطئة لاسرائيل احياناً فيكتسبون مصداقية تضيف الكثير الى رصيدهم. وهم مثلنا في بريطانيا، يهتمون برباط "العائلة" ويقلقهم تصدعها. وقد ضحكوا معنا ومع النقاد على فيلم "اربعة أعراس وجنازة" وحق لهم ان يبكوا. الراجح انهم سيساندون رئيس الوزراء ثم يذكرونه بمساندتهم يوماً ما. فنيل المطالب في السياسة البريطانية ليس بالتمني بل بالثقل الفعلي الذي يحسب حسابه. وهذا هو ما ينبغي ان ننظم انفسنا لكي نحققه.