فيما يقوم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أن ان بمفاوضات اللحظة الأخيرة لتجنب حرب جديدة في الخليج تستكمل الولاياتالمتحدة انتشارها في الخليج. وزاد ارسال ست قاذفات خفية ستيلث من طراز "أف 117" نايتهوك في تسليط الضوء على تأمين أكثر ما يمكن من الدقة في القصف الجوي المحتمل للعراق. يعكس الهدف المعلن لأي حملة عسكرية الهدف السياسي الذي وضعته الولاياتالمتحدة على رأس قائمة اولوياتها، أي تقليص قدرات العراق الكيماوية والنووية. لكن هذا الهدف، لأسباب عدة، قد لا يمكن التوصل اليه ضمن حدود القوى المنشورة حاليا في الخليج. ان القوى الأميركية الحالية في المنطقة أقوى بكثير من تلك التي استخدمتها الولاياتالمتحدة عندما شنت هجماتها الجوية العقابية على العراق في 1993 و1996، لكنها تقل كثيراً عما استخدمته خلال حرب الخليج الثانية في 1991. والاعتبار الحاسم هنا هو ان الاعتماد الساحق على الطائرات للهجوم على العراق يضع حدوداً للخيارات العسكرية الأميركية. أولا، تمتاز مواقع انتاج السلاح الكيماوي والبيولوجي عن تلك المخصصة لانتاج السلاح النووي بالسهولة التامة في إخفائها. اذ يمكن انتاج السلاح الكيماوي في أحيان كثيرة ضمن مواقع صناعية وزراعية عادية، كما يمكن استعمال اي مبنى متوسط الحجم لانتاج السلاح البيولوجي. من هنا فان للعمل الاستخباراتي أهمية فائقة في تحديد هذه الاهداف، لكن الأكيد ان معظم المعلومات عن المواقع جاء من اللجنة الدولية الخاصة اونسكوم، وهو بالضبط ما دفع صدام حسين أصلاً الى عرقلة اعمال اللجنة. وحتى لو هاجمت اميركا هذه المواقع فقد تكون المواد الرئيسية المستعملة في الانتاج اخفيت منذ زمن طويل. اضافة الى ذلك، اذا اخذنا في الاعتبار "الاستعمال المزدوج" الممكن لهذه المرافق، فلا شك في ان العراق سيركز أمام العالم على طبيعتها المدنية، ويندد بالتالي بتقصد اميركا ضرب الأهداف المدنية. المثال هنا هو "مصنع حليب الأطفال" الشهير خلال حرب 1991. اضافة الى ذلك، من المرجح ان هذه المرافق تقع ضمن المناطق السكنية،، ما يضاعف الخطر على العراقيين العاديين. لهذا السبب لا بد ان تتخذ الولاياتالمتحدة ما يمكن ان يسميه المخططون العسكريون "استراتيجة القسر" الهادفة الى اجبار صدام حسين على السماح لپ"اونسكوم" بممارسة مهماتها. اذ ان فرق "اونسكوم" هي الوحيدة القادرة على اخضاع المواقع المشتبه بها للتفتيش الدقيق وتدميرها في شكل يضمن عدم اطلاق المواد الكيماوية والبيولوجية الى الجو. لذا يتوقع ان تركز الولاياتالمتحدة في المراحل الأولى على ضرب الدفاعات الجوية والمطارات ومراكز القيادة والاتصال داخل العراق، في مهمات تقوم بها صواريخ كروز وقاذفات "ستيلث"، ومن ضمنها قاصفات "بي 2" "الروح" التي تبلغ كلفة الواحدة منها 1.5 بليون دولار، وطائرات "أف 117" المتمركزة في الكويت. بعد ذلك تأتي "موجات المتابعة" المكونة من طائرات "أف 16" الأميركية و"تورنادو" البريطانية المنطلقة من قواعد أرضية، و"أف 14" و"أف 18" من حاملات الطائرات الأميركية، التي تركز على البنية التحتية العسكرية. والهدف هنا تقليص قدرة صدام حسين على السيطرة على العراق، ويتوقع ان تشمل الغارات في هذه المرحلة من العملية الجسور ومحطات الطاقة ومواقع الاستخبارات. ولعل قرب هذه المواقع من التجمعات السكانية سيدفع القوات الأميركية والبريطانية الى استعمال القنابل "الذكية" التي شهدتها حرب الخليج الأولى. وعلى رغم ان القوات الحالية لا تشمل اكثر من 300 طائرة في المنطقة، مقارنة ب1200 طائرة اثناء حرب 1991، فإن عدداً أكبر من الطائرات المتوفرة حالياً يستطيع القيام بمهمات القصف الدقيق المطلوبة. في هذا السياق هناك، خصوصاً، الانظمة التسلحية الأحدث، مثل نظام "غام" لتوجيه القذائف بالاقمار الصناعية الذي تحمله قاذفات "بي 2" الشبحية. وهو نظام تام الاستقلال عن التوجيه الأرضي، يمكّن القاذفة من التعامل المتزامن مع جملة من الأهداف، وعلى مسافات أبعد من السابق، ومهما كان الطقس. واجهت أميركا خلال حرب الخليج مشكلة في التعامل مع المواقع المدفونة عميقاً تحت الأرض وتحصنها أمتار من الاسمنت المسلح. وواجه الخبراء المشكلة بتحويل مواسير المدافع القديمة الى قنابل خارقة، وزن الواحدة منها 2000 كلغ. واستعملوا اثنين منها بنجاح في نهاية الحرب لتدمير موقع قيادي عراقي محصن. وطوّر الأميركيون هذا السلاح منذ ذلك الحين ليطال تحصينات أعمق، وأضافوا اليه صواعق تجتاز الطوابق المتعددة ولا تنفجر الا على العمق المقرر. ولا شك ان اسلحة كهذه ستستعمل ضد الأهداف المهمة في آلة الحرب العراقية. التكتيكات أيضاً تغيرت منذ 1991. وكانت غالبية الطائرات استخدمت أنظمة تعود الى الحرب الباردة، اذ كان على الطائرات البقاء على ارتفاع منخفض للحصول على الاستخدام الأفضل لسلاحها. وأظهرت الحرب مدى انكشاف قاصفات "تورنادو" البريطانية، التي كانت تحمل قنابل تدمير المدارج من طراز "جي بي 233"، للدفاعات الأرضية الكثيفة. وتتكون هذه الدفاعات من المدافع الخفيفة والصواريخ المضادة للجو المحمولة فردياً، وهو ما ستواجه القوات المغيرة، خصوصاً حول بغداد. من هنا فإن القصف هذه المرة سيجري من ارتفاع متوسط، أي نحو 20 ألف قدم. إلا أن سياسة الضغط على صدام حسين تواجه صعوبات. ذلك أن النظام، اذا برهنت الحملة الجوية على ما يكفي من الفاعلية لزعزعته، قد يوجه ضربة انتقامية الى الولاياتالمتحدة او أي من حلفائها. وعلى رغم تراجع القدرة الصاروخية العراقية بعد حرب الخليج فمن المحتمل أن هناك ما يكفي لضرب اسرائيل أو القواعد العسكرية في الكويت. ومعلوم أن صدام حسين اثناء حرب الخليج كلف عدداً من المسؤولين اطلاق الصواريخ الكيماوية والبيولوجية عندما يبدو ان نظامه على وشك الانهيار. ولما كان من المحتمل ان يعود الى هذا الاجراء فإن من المهمات الرئيسية للاستخبارات الحليفة تحديد أمكنة هذه الصواريخ وتدميرها في مراحل مبكرة من العملية. لكن ما يبعث على قدر أكبر من القلق هو ما يمكن للولايات المتحدة ان تفعله اذا فشل الهجوم الجوي في اجبار العراق على التعاون مع "اونسكوم". فالعنصر الحاسم في "استراتيجية القسر" هو ادراك الخصم المفترض انه سيتعرض الى تصعيد متزايد اذا لم يتجاوب مع مطالب الطرف المهاجم. لكن حجم القوات الأرضية الأميركية في المنطقة لا يتجاوز حالياً عشر ما كان عليه اثناء حرب الخليج. ومن هنا فإن صدام حسين يعرف، إذا نجح في البقاء بعد الضربة الجوية، ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع التهديد بهجوم أرضي على العراق. المشكلة الأميركية هي اذن في التوصل الى "استراتيجية للخروج" من الصراع من دون خسارة ماء الوجه. ويبدو من التعليقات الأميركية الأخيرة ان واشنطن بدأت تطرح هذه الاستراتيجية، عندما تتحدث عن إعاقة انتاج السلاح البيولوجي والكيماوي العراقي وليس ازالة مواقع الانتاج. لكن أي سيناريو لا يشمل الحصول على الحرية التامة لفرق "اونسكوم" للتفتيش سيسمح لصدام حسين باعادة بناء ترسانته البيولوجية والكيماوية بل حتى النووية. لقد وضعت اميركا لنفسها هدفاً صعباً هو اجبار صدام حسين على الرضوخ، لكنها تعرف انها اذا لم تحقق الهدف بالكامل، واذا لم تحصل على تعاون العراق التام مع "اونسكوم" فإنها ستكون قد اضاعت فرصتها الأفضل لمنع صدام حسين من اعادة بناء ترسانته المحظورة.